قد يستغرب القراء أو بعضهم على الأقل لهذا العنوان، ذلك أن الناس اعتادوا على أن يستغربوا طرح أسئلة يعتقدون أن الإجابة عنها واضحة وضوح الشمس، إلا أن هؤلاء كثيرا ما يعيدون النظر حينما يطلعون على أجوبة واجتهادات جديدة فيما يعتقدون انه واضح ومفروغ منه.
حقا من هو قارئ القصص، وهل له مواصفات خاصة؟ هل هو يحتاج أصلا إلى مثل هذه المواصفات؟ ثم هل هو يختلف عن سواه من القراء؟ أسئلة وأسئلة أخرى اطرحها، بعد أن تبين لي من المعايشة اليومية لأصناف مختلفة من القراء، أننا يجب أن ننشغل بها قليلا.
اعتقد بداية أن قارئ القصة ينبغي أن تتوفر فيه صفة خاصة، هي ما تميز كاتب القصص عادة، وتمنحه الفرق بين غيره من كتاب النثر الأدبي، بمعنى أن المرسل- الكاتب، ينبغي أن يلتقي مع المرسل إليه- القارئ، في نقطة لقاء لا بد من الالتقاء فيها تحديدا، كي يكون اللقاء اغني وأكثر ثراء.
هذه الصفة هي الحساسية المفرطة تجاه الحياة والأشياء المحيطة به، إن هذه الصفة تجمع بين الاثنين، المرسِل والمرسَل إليه، جمعا لا بد منه لتكتسب القراءة أهميتها، ذلك أن الكاتب عادة ما يكون في ذروة تألقه الإبداعي حين إقباله على الكتابة القصصية، حتى انك لتخاله زاهدا في معبد أو راهبا في كنيسة أو شيخا في مسجد، أثناء معايشته للحظة اتصال بخالقه.
كل من القارئ والكاتب القصصيين، يحتاجان إلى نوع من العزلة، أثناء القراءة والكتابة، فالكتابة القصصية وكذلك القراءة القصصية، تحتاجان للتوحد بالكلمات، لمعايشتها، للإحساس بها، ولامتلاك القدرة، للإيغال فيما وراءها، إذا ما تطلب الأمر، وهو كثيرا، إذا لم يكن دائما، ما يتطلب هذه القدرة أو مثلها، بعيدا أو قريبا منها.
بدون هذه الحساسية لكل كلمة، نأمة وحركة، لا توجد كتابة قصصية، ولا توجد بالتالي قراءة قصصية ذات جدوى.
قارئ القصص والحالة هذه، لا بد من أن يمتلك حساسية من نوع ما، تجاه ما يقدمه إليه كاتب مرهف الإحساس، كاتب سبر غور الحياة، عبر تغلغله إلى أعماق ما تضمنته وقدمته إليه من تجارب، يمكن لنا إذا ما تمكنا كقراء، أن نتغلغل إلى أعماقها، وان نجعل لحياتنا بعدا أخر غير ذاك اليومي المعيش، بعدا يجعلنا نقلع إلى بحار ما كان بإمكاننا أثناء عمرنا المحدود القصير أن نقلع إليها، هذا البعد يمكننا من التعرف على أصناف وأصناف من الناس، سواء كان في زمننا الراهن، أو في الزمن الماضي الغابر.
القصص تجعل حياتنا أكثر ثراء، أخصب واقدر على التفاعل مع التجربة الإنسانية الشاملة، فهي تمكننا من أن نكون أناسا آخرين، أعمدة من دخان أو طيورا تحلق فوق محيطات بعيدة، هي تمكننا باختصار، في هذه النقطة، من أن نكون آخرين وغير من يشكلون انانا المحدودة مهما اتسعت أبعادها وآفاقها، أضف إلى هذا أنها تخرجنا من ذواتنا المحدودة، إلى ذوات أخرى قد تكون حجارة تنبض على شواطئ بحار بعيدة، بُعد الحلم، قريبة قرب النبض.
القصص هي عوالم الكتاب، وهي في الآن ذاته، عوالم الآلاف والملايين من القراء المشابهين لهم، ليس في الشكل والظروف، وإنما في العمق، في ماهياتهم كأناس، يمتلكون طموحات فائقة عصية ترفض أن تحدها حدود، وترنو لان يكون العالم حركتها، وفي تطلعاتهم للتمرد على العادي، الساكن والمستسلم، بَلَه في تشوفهم إلى أن يكونوا محبين أو قادرين على الحب، رغم ما يملأ العالم من كراهية يصنعها البشر لاغتيال أحلام اخوان آخرين لهم.
كاتب القصة، وكذلك قارئها، يرفضان الزيف، تسطيح الأشياء، وإظهار سطوحها فحسب، وإنما هما يحاولان ، كل بطريقته، أن يتغلغلا إلى أعماق هذه الأشياء، والى إظهار الجميل والنبيل فيها، إنهما لا يكتفيان بالسطحي من أمور الحياة وشؤونها، وإنما هما يدركان تمام الإدراك أنهما ينبغي أن يصلا إلى ابعد ما يمكن أن يصل إليه نظراؤهما من أبناء البشر، أن يندفعا إلى أعماق الكلام، وصولا إلى جوهره الذي يشعل نار المحبة والحقيقة، فتستسلم هناك روح كل منهما مطمئنة لشعورها بأنها وصلت إلى ابعد ما يطمح إنسان مرهف للوصول إليه في لحظات حياته القصيرة مهما طالت.
عالم هذين، كاتب القصة وقارئها، هو عالم واحد، انه عالم لا يستخف بأية حركة مما يمور فيه، ويمنح الاهتمام، للبستاني بنفس القدر الذي يمنحه لمن يصنفون على أنهم علية القوم، وهم في الواقع لا يختلفون جوهريا عن سواهم من بني جلدتهم، كما انه يمنح الاهتمام بتلك السمكة السابحة في محيط بعيد (اقرأ الشيخ والبحر لارنست همنجواي مثلا)، بنفس القدر الذي يمنحه للحوت الأبيض في محيطات لجية( اقرأ موبي دك لهرمان ملفل مثلا أيضا). لا يوجد في عالم القصص أمور لا تستحق الاهتمام وأخرى تستحقه، كل شيء في عالم القصص يستحق الاهتمام، ما دام موجودا وما دامت العين البشرية تقع عليه وتستمتع برؤيتها له.
القصص بالمجمل تمنحنا، سواء بكتابتنا، أو بقراءتنا لها، ثراء ما بعده ثراء، تغني نفوسنا إذا كانت فقيرة، وهي كثيرا ما تكون كذلك، تحدث توازنا في أحاسيسنا الكاذبة بالاستعلاء، إذا ما حل بنا داء الصلف والتكبر، إنها تجعلنا متوازنين في هذه الحياة، وتعطينا قوة ما بعدها قوة لأن نكون نحن الحقيقيين، نحن الذين وجدنا على هذه الأرض كي نعيش إلى ما لا نهاية، وليس لمدة محدودة سرعان ما تندثر، وتضحي أثرا بعد عين، إنها تعطينا إمكانية غير محدودة لأن نعيش عوالمها الرحيبة، هذه العوالم التي يشكل كل عالم حقيقي منها، عالما آخر مثل هذا العالم الجميل، الذي كان لنا شرف أن نكون من أبنائه.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com