صدرت حديثاً رواية تحرير للأديبة حمدة خلف مساعيد، وهي من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، لوحة الغلاف للفنان الفلسطيني محمد نصر الله، وعلى الغلاف حصان ينحني مقابل فتاة ترفع جبينها عالياً، وتنظر للحصان بهدوء، في اختيار الغلاف دلالة على روح تحرير وصفاتها.
نحن أمام عمل روائي وطني فلسطيني، سجلت الكاتبة في روايتها الأولى أحداث ثورية ونضالية لمخيم جنين، كان لشخصية الفدائي الفلسطيني نصيب الأسد في الوصف والسرد، أيقظت فينا الكاتبة ذكريات بطولية، وأحييت الفكر الثوري، خاضت البطلة تحرير مع الأبطال جولات بطولية انتهت باستشهادها، البندقية المدفونة تنهي الرواية، أطلقت تحرير رصاصة الموت أصابت أو أخطأت.. لن تدري، وكأن قدر الفلسطيني أن يموت حزيناً بعد أن يحمله اليأس لاختيار نهاية موجعة.
حوار سردي
تخلت الكاتبة عن حقّها السّردي ُكلّفت تحرير به، امتلأت صفحات الرواية بالحوارات العاطفية تجاه الوطن، حاورت الكاتبة النفس البشرية وتتبعت عقدها من خلال شخصيتيّ تحرير وإيهاب بأسلوب حواري شيق،
أحبت تحرير إيهاب المتخاذل لتنشي الكاتبة بينهم حوار يصب في عمق الصراع الوجودي بيننا وبين المحتل.
لقد جسدت الكاتبة عنفوان المقاومة وبسالة مرحلة من نضال مخيم جنين، واصفة جمال الروح النضالية، ومبينة قيمة الوحدة فلم تذكر أحزاب، تلك الروح الجريئة التي لا ترَ صوب عيونها سوى النصر.
تحرير تظهر في بداية الرواية فتاة حرة تعرف ما تريد، شخصية قيادية قوية مبادرة، وبين ليلة وضحاها يتبدل الحال وتضع في ظرف يجبرها على ترك حبيبها والزواج من أخيه، تضع الكاتبة يدها على الجرح، هناك خلل في العلاقات التي تحكمها الظروف والعادات والتقاليد والأعراف في المجتمع، تعري الكاتبة سوء العلاقات وتدخل بطلي الرواية ـ إيهاب وتحريرـ التي عاش معهم القارئ قصة حب جميلة، رغم الاختلاف بينهم في النظرة للمقاومة والدفاع عن الوطن، والرغبة في تحريره.
ومع ذلك تتعايش تحرير مع الواقع الجديد، في دلالة على قوة المرأة الفلسطينية في خوض التحديات وتأكيد على أخلاق المرأة الفلسطينية واهتمامها بالمحافظة على تربيتها المبنية على المبادئ والالتزام.
صراع نفسي
بين حب الوطن والهزائم المتلاحقة معضلة أوقعت البعض في الشك وأضعفت النفوس، هو فساد للروح المتوهجة، يطفئها رويداً رويداً لتغدوا غير صالحة للنضال، تكسر سيف المقاومة، وتنحني لروتين الحياة الذي يجعل الفلسطيني على الهامش، هو أحد روافد الهزائم جريمة النفس وتخاذلها أمام روحها وكينونتها الوطنية.
لقد أتت الكاتبة على الأسباب التي شكلت شخصية إيهاب بهذه الصورة، وهناك أسباب أخرى دفعت الفلسطيني للشك في جدوى نضاله وأورثت شخصية انهزامية ضعيفة، لا تستطيع أن تتخذ قرار، ومن يهزم أمام قرار وطنه يهزم في قرار ذاته، خسر إيهاب تحرير لأنه نشأ بشخصية انهزامية.
وهناك أسباب أخرى هي عدم توفر الوقت الكافي للفلسطيني ليفكر بما يحدث حوله، يمضي جل وقته باحثاً عن قوت يومه، تعطل الفكر مقابل الماديات.
يخطط العدو في أفكار متراكمة ولا يترك ثغرة، فها هو يرسل الجواسيس إثر تحرير، ويجند العملاء، هذه من أسباب قتل روح النضال في الفلسطيني، حيث أن إيهاب متعلم، ويتمتع بشخصية قوية وحياة عملية ناجحة وحضور طاغي، وقلب محب ومشاعر تحسن الجدال، وترغم الحبيبة على خوض معركة خاسرة لصالح قلبه دائما.
مشاهد حياتية
أبدعت الكاتبة في سرد حوار مشوق سلس قريب من مشاهد الحياة الاعتيادية، مع أنها ليست من مخيم جنين ولم تسكنه يوماً، ولكنها استطاعت أن تدخلنا بقلمها المبدع، واسلوبها المميز إلى حارات المخيم وبيوته، لكن في بعض المواقع يتداخل الحوار بلا مقدمات مثال ذلك صفحة 149. حيث يحتار القارئ من القائل؟
في مشهد موت أم محمد تفتح الكاتبة جراح عميقة تجسد حياة أمهات الشهداء والأسرى، بالغالب الموت ينهي معاناة أم الشهيد وأم الأسير، فلا انتظار على بوابات السجن، ولا قلق من ظروف الأسر.
وددت بعد أن أنهيت قراءة الرواية أن أسير في شوارع المخيم أتصفح وجوه المارة باحثة عن ملامح أم محمد وتحرير وأكرم وشادي، أن ارفع رأسي لعل أم سمير تطل من إحدى النوافذ أو تجلس على باب محل خضار تلقي التحية على المارة، فقد صورت الكاتبة حمدة مساعيد الشخصيات بصورة حقيقية تكاد تسمع صوتها وأنت تقرأ الحوار.
تحرير اسطورة فلسطينية
تنتهي الرواية على صورة مغايرة لما بدأت به، تفاجئ القارئ بعيدة عن تصوراته، وهذا نوع من الأبداع، هي ليست رواية اعتيادية، تتعقد الأحداث ثم تسيطر عليها الكاتبة بحنكة واقتدار.
عندما طويت آخر صفحة فهمت مغزى الرواية بنظرتي الأنثوية، تحرير هي أسطورة فلسطينية لأُنثى ترسم الوطن الذي تحب وتعيش في إطار الصورة، يحاصرها الخونة ويستدرجها أحدهم ولكنها تتمكن منه، لا تقع ولا تتبع قلبها، لأجل سمعة أهلها واحترام لكلمتهم تقبل الزواج، ترفض الانصياع لقلبها وتُخلص لزوجها، تدافع عن شرفها بالدم وتدافع عن بيتها بروحها.
في رسالة أكرم التي تعتبر وصية لتحرير تدخل الكاتبة القارئ بمتاهة لا داعي لها عندما تذكر أصل إيهاب وكون أخته سولينا زوجة شادي، فلا داعي له في الرواية ولا يخدم الأحداث، ومبالغ به.
ومما لفت نظري أن الرواية تمت عام 2002م وطبعت هذا العام، أي أنها بقيت حبسية الأدراج كل تلك الأعوام، كم هي المواهب التي تبقى حبسة الأوراق بلا دعم، وما أخطر وأد الكلمة.