يعود التشويش على بث الأقمار الصناعية بقوة، باعتباره من المسائل المعقّدة سياسياً وتقنياً في الصراع الدولي. ويتجدّد السؤال المطروح منذ عقود عن تغيير الاتحاد الدولي للاتصالات اتجاه براغي البث نحو اليمين أو نحو اليسار بين شاشات العرب والغرب في عصر الإعلام والحريّات، لتتركّز العقوبات على الدول المسكونة بالهزّات وعدم الاستقرار والاضطرابات التي قد يشارك الإعلام الحرّ في تليينها أو اشتعالها.
لنتذكّر أن ما يُسمى ب «الربيع العربي» الذي لم يأفل بتداعياته، وما يزال مستمراً محكوماً بهاجسين: الهاجس النووي و«الإرهاب» الإعلامي الفضائي. أدرج الكونجرس الأمريكي سابقاً قانوناً اعتبر عدداً من الأقمار والقنوات العربية والإسلامية مؤسسات إرهابية، عبر ما تبثّه الفضائيات من برامج ومواد وصور، الأمر الذي بقي معلّقاً يجرّ مزيداً من التعقيد.
تحتّل صراعات العرب والمسلمين مواقع متقدّمة في الفضائيات في عين العرب والعالم. لكن مهما كانت نتائج هذه الصراعات، فإنّ جذورها عميقة، ولن تتّضح السبل التي يمكن اعتمادها لوقفه أو الحدّ من تبادل التشويش. السبب أن قوانين تنظيم الفضاء وتقسيم مساحات البث الفضائي بين دول العالم تجتاحها الفوضى بكونها لم تقف عند نصوص قانونية دولية، كما حصل بالنسبة لتثبيت قوانين البحار والحدود المائيّة والبريّة بين دول العالم. صعبة ومعقّدة لا بل مستحيلة في نظري، إرساء قوانين تنظّم الحدود الفضائية بين الدول والشعوب. يمكن وقف شحن المعدّات التي تتيح لأية دولة التشويش على أخرى أو الإمعان في شعبها، لكنها معدّات متوفّرة بالتالي في أسواق العالم، كما في السوق السوداء. يمكن أيضاً حجب بث برامج الدولة المشوّشة، وخصوصاً الرسمية منها عبر الأقمار الصناعية، وهذا بدوره غير مجدٍ، لأنّ الفضائيات الخاصة تجاوزت الرسمية، وباتت تتقدّم بعض السياسات العربية والإقليمية بأشواط. وأكثر من ذلك، يمكنني القول، إن الإنسان المعاصر يتحرّك في «المشاعات» الفضائية الحرّة غير الممسوحة محققاً ذاته، بعد تحقيق اجتيازه وتملّكه للأرض والمياه.
لا يُرينا الصراع في حلّته المُتجددة سوى القشرة الخارجية الباحثة عن إجابات عن أسئلة كثيرة مطروحة منها: ما السرّ المُتعاظم في الاهتمام بإقفال القنوات الفضائية؟ وما الدوافع لتبادل التشويش ومحاولات الشطب من الفضاء؟ وما المعايير العالمية التي ستجمع العالم في عينٍ واحدة وأذنٍ واحدة لدى معالجة المضامين أو بثها فضائياً؟
نستقطب كعرب ومسلمين باهتمام غير مسبوق في إعلام الغرب، للغنى الاستراتيجي القديم، ولتشابك قضايانا التاريخية المزمنة. من الصراع العربي الإسرائيلي ومعضلة الدولتين ومستقبل القدس إلى الإرهاب والطاقة والملفات النووية ثمّ الحروب المستكينة في بغداد ولبنان وغزّة وفلسطين وسوريا وإيران، والتي لم تقع بعد ونحن نتطلّع مجدداً إلى تونس مثلاً، تتسابق بالطبع وسائل الإعلام، وتتركّز موجاتها عبر الأقمار الصناعية، لتبث كلّ ما يرتبط بذلك من أحداث وصور ترفع الحجب عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، وتركّز على حقوقنا من حق التعبير إلى حق التحرير والحريات العامة وحقوق المرأة والطفل؛ إذ تحوّلت معظم الفضائيات إلى منصّات سياسية صلبة ومتباينة إخبارية كانت أم دينية محضة، أو منوّعة من قضايانا المكشوفة، وبأشكالٍ بانت واضحة مقبولة أو مرفوضة من قبل الأنظمة والشعوب في طرائق تغطية الأحداث، واستضافة المعلّقين والمحللين والخبراء، وتحديد المصطلحات والمواقف، الأمر الذي قسّم العرب والشعوب حتّى بتنا نتساءل: هل الفضائيات والإعلام عامة تعد انعكاساً لانقسامات متعددة يشهدها العرب والعالم، أم أنهما أسلحة تُعرّي السياسات والمعارك والتجاذبات فتذكّيها؟
يمكن الإجماع بأنّ العين العربية تجاوزت الإشباع بمشاهد العنف الحي المُتنقّل الذي سمح للإعلاميين أو شجّعهم على بث الصور الشرسة التي خلّفتها وتخلفها الحروب المحمولة والمتنقلة بين بلدان العرب، لكن لا ننسى بأنّ من مهمّات الأقمار الصناعية إيقاظ المجتمعات المتخلّفة وإماطة اللثام عن دور الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى، بكونها أيضاً شاشات قتال، بلغت ذروتها عندما خلعت أمريكا باب بغداد في أل 2003 تسبقها الشاشات في تحقيق استراتيجيات وتجارب إعلامية استمرّت أصداؤها تفصح عن مواقف سياسية متباينة في المنطقة تطرح بحدة أكثر الأسئلة المهنية والأخلاقية حول دور الفضائيات تجاه أزمات المنطقة، وهل الفضائيات العربية هي مرجعيات للفضائيات الأجنبية والعالمية فيما تحققه من أدوار؟ ولا ننسى أخيراً أنّ كلّ الأسئلة المُشابهة صارت حُطاماً بعدما تجاوزت سبابات أولادنا وأحفادنا أنظمة الرقابة أو التشويش والتشويش المُضاد.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com