اعادتني الذكرى السابعة لرحيل الشاعر الصديق العزيز سميح القاسم، التي صادفت اليوم الخميس( 19-8-2021)، إلى السنوات الاولى من حياتي مع الكلمة ومعايشتي لها. كان ذلك في أواخر الستينيات من القرن الماضي، يوم ارسلت قصة لي إلى مجلة "الجديد" الحيفاوية، واضعًا يدي على قلبي فهل سيقبل الشاعر المشهور مُحرِّر تلك المجلة في حينها أن ينشر تلك القصة، لا سيما وانها تعارضت نوعًا ما مع كان ينشر آنذاك في المجلة من مواد سياسية، وتحدثت عن حب الام وحب المدينة. وماذا سيكون موقفه؟ وتشاء الصدف أن التقي الصديق العزيز الراحل المرحوم نواف عبد حسن، في احد شوارع مدينتي الناصرة، فيسألني عمّا اذا كنت قد أرسلت قصة إلى مجلة الجديد، فلا اجيبه خشيةً وتوقيًا، فيرسل إلي ابتسامة حافلة بالمودة مرفقًا إياها بابتسامة من طرف فمه، ويطمئنني على أن قصتي ستنشر في العدد القريب من مجلة "الجديد"، عندها أسأله كيف عرفت هذا؟ فيبتسم مرة اخرى مرفقًا ابتسامته هذه المرة بكلمات لا اتذكرها حرفيًا الآن وقد مرّ عليها كل تلك السنوات، مفادها أن سميح القاسم سأله عني ومن اكون فأخبره انني شاب متأدب وفدت عائلتي عام النكبة من قريتها سيرين إلى مدينة الناصرة للإقامة فيها، وقال لي إن سميحًا قرر نشر تلك القصة لأنه رأى في صاحبها كاتبًا مبشرًا وموهوبًا.
خلال علاقتي بسميح منذ ذلك العام حتى أيامه الاخيرة، تأكد لدي حادثًا اثر حادث ولقاءً تلو آخر، ان سميح القاسم تعامل مع الحياة الادبية بشفافية، وأراد دائمًا ان تتفتح في بستاننا الف ومليون زهرة، كما ادرك ما لأهمية اعطاء من رأى فيهم اناسًا موهوبين الامكانية لأن يعطوا ويعطوا بلا حدود.
في الفترات التالي وخلال سنوات وسنوات، كان سميح رحمه الله، يسعى للتعاون مع كل من يرى فيه مقدرة على العطاء ودفع عربة ثقافتنا العربية الفلسطينية في البلاد، كل ما يحتاج إليه ويتطلبه للمزيد من التفتح والعطاء، واذكر بكثير من المودة أنه طلب مني ومن آخرين في فترات تالية، أن نكتب عن كل من غادر عالمنا من فنانين وكُتّاب. فعل هذا معي يوم رحل الفنان اللبناني الذي اشتركنا في محبته حسن علاء الدين الملقب بـ" شوشو"، ويوم طالت يد المنون شاعرنا الفلسطيني راشد حسين، الراحل احتراقًا في لندن، في هذا الصدد لا اتذكر أن سميحًا ردّ انسانًا جادًا عن بابه، وكان مقرُّه في حي واد النسناس في حيفا، ملتقى للأدباء والفنانين، هناك في مكتبه التقيت عددًا وفيرًا من فنانينا وكتابِنا ممن لم اكن اعرفهم، بينهم الفنانة الممثلة بشرى قرمان رحمها الله، والشاعرة البارزة المرحومة فدوى طوقان ابنة مدينة نابلس، التي توطّدت معها العلاقة فيما بعد. وعندما توقف سميح عن تحرير مجلة الجديد انتقل ليدير المؤسسة العربية للثقافة والفنون من مكتبه في شارع الموارنة، واذكر بكثير من الدفء انه بادر في تلك الفترة لإيجاد تمويل لإقامة مهرجان الفولكلور الأول في الناصرة بالتعاون مع الصديقين فوزي السعدي مدير جمعية المهباج والشاعر سيمون عيلوطي، وقد انتدبني في حينها لتغطية وقائع هذا المهرجان أولًا بأول لينشر ما اكتبه تباعًا في صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية التي عمل فيها سميح ايضًا، محررًا فترة مديدة من الزمن.
عندما انتقل سميح إلى الناصرة ليعمل محررًا لصحيفة "كل العرب" تواصلت العلاقةُ بيننا، واذكر انني قمت بزيارته اكثر من مرة في هذه الصحيفة، واشهد انه كان يفتح بابه لكل من طرقه، لا اتذكر انه اغلق ذلك الباب بوجه احد، وقد رافقته في هذه الصحيفة بنشري لعدد من المتابعات الأدبية الثقافية والفنية، بل انه اقترح علي أكثر من مرة أن اعمل معه وإلى جانبه، واذكر انني سألته في اللقاء الأول لي معه في مكاتب صحيفة كل العرب، عمًا اذا كان سيأتي من بلدته الرامة كل يوم إلى الناصرة، فنظر إلي مستغربًا السؤال، فما كان مني إلا أن حذرته من الطرق وحوادثها، عندها ابتسم وقال:" لي لا تخف عمر الشقي بقي".. إلا ان ما حدث هو أن حادث طرق كاد ان يودي به وحدّ من حركته وقع له خلال تنقله بين بلدته ومدينتي.
مما اتذكره عن سميح، أنني قمت قبل سنوات بالتعاون مع صاحب مجلة "الشرق" الفصلية الثقافية التي صدرت في شفاعمرو ابتداء من السبعينيات الاولى، وتوقفت عن الصدور قبل سنوات، اقول إنني قمت بالتعاون مع الدكتور محمود عباسي، امد الله في عمره، بتحرير عدد خاص عن سميح القاسم قدّمنا فيه مادةً ضافيةً عن سيرته ومسيرته، كما قدّمنا فيه مجموعة اختارها هو ذاته من بين كتاباته، وأذكر أن سميحًا تعاون معنا إلى اقصى حد ليصدر العدد بحلة انيقة تليق به وبالمجلة.
الشخصية الانسانية الحانية ميّزت سميحًا طوال عمر علاقتي به، وأذكر مما اتصف به من سعة صدر وتفهم عميق لمجريات الامور، أنني ضقت ذات يوم كما ضاق كثيرون سواي، بالادعاء أن شعرنا في هذه البلاد اقتصر على ثلاثة او اربعة اسماء، فكتبت سلسلة من المقالات انعي فيها على هكذا حركة ادبية تتوقف على مثل هكذا كم من الاسماء، فما كان من سميح إلا ان قام بالثناء على تلك السلسلة من المقالات قائلا إنه يوافقني الرأي وأن البلاد التي تتوقف عن تقديم الشعراء تشبه المرأة العقيم التي لا تلد الابناء.. وبلادنا والحد لله بلاد حباها الله بالكثير من القدسية والعطاء.
هذا عن سميح الإنسان المثقف المُحرّر المشجّع لكل موهبة ثقافية يقتنع بها، اما عن سميح الشاعر، فان الحديث يبدأ ولا ينتهي، ولعلّي اجد في هذه المناسبة المؤسية، مناسبة الحديث عنه في ذكراه، فسحة للتحدث عن علاقته بصديقه وأخيه الذي لم تلده أمه، شطر البرتقالة الآخر، الشاعر المرحوم محمود درويش، فقد ظهر كل منهما في نفس الفترة، وقد اعطيا الكثير وأحبهما الناس، كونهما شاعرين مبدعين يثيرهما ما يثير الجميع من احداث سياسية جسام تمر بها بلدان العالم وبلادنا خاصة، وعندما غادر محمود البلاد في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، كتب إليه سميح قصيدة ملأى بالمحبة للأرض والوطن، داعيًا اياه للعودة لأنه لا توجد بلاد في الدنيا تتسع لنا مثلما تتسع بلادنا. واذكر ان هذه القصيدة نشرت في احد دواوين سميح الأولى واقصد به ديوان" دمي على كفي". بعدها جرت مكاتبات بين الشاعرين تلقتها صحيفة "الاتحاد" أولا بأول، ليقوم محررها الادبي في حينها الكاتب محمد علي طه بنشرها وليختار لها عنوانًا لافتًا هو " رسائل بين شطري البرتقالة"، واذكر انني عندما قام محمد علي طه بنشر هذه الرسائل كنت اعمل مساعدًا له في تحرير الصفحة الأدبية في الاتحاد، بل اننا تشارونا معًا في اطلاق عنوانها المذكور عليها، مع التشديد على أن طه هو من أطلق هذا العنوان اللافت عليها.
لقد رأيت دائما في سميح القاسم شاعرًا مبدعًا، واذكر أن ندوة اقيمت في الناصرة في ذكرى أحد أيام الارض السنوية، شارك فيها اكثر من عشرة شعراء قدموا من اماكن ومواقع مختلفة من بلادنا، وكيف تألق سميح بينهم وكأنما هو من كوكب وهم من آخر، مع الاحترام لكل من كتب وقرأ في تلك الندوة.
ايماني هذا بقدرة سميح وتمكنه من ملكته الشعرية والابداعية بصورة عامة، دفعني لترداد رفضي لأية مقارنة بينه وبين شطره الآخر، الشاعر محمود درويش رحمه الله، وكنت اتذرع برفضي مثل هذه المقارنة، قائلًا إننا لسنا بحاجة للمقارنة بين أي شاعر وآخر، لأن لكل من الشعراء في عالمنا الرحب هذا، عالمه الخاص به، بل اختلافه عن سواه وهو ما يميزه في عطائه. مشيرًا إلى ان لكل من شاعرينا قدرته المميزة في القول الشعري، وأن المطلوب منا ألا نطلب من شاعر ان يكون نسخة من الآخر، وإنما المطلوب منا أن نميز الشعراء باختلافهم لا باتفاقهم.
رحم الله سميحا، فقد اعطى الكثير وترك وراءه الكثير، وقد احسن رحمه الله بكتابته سيرته الذاتية قبل رحيله بفترة وجيزة.. لتصدر في كتاب يمكِّن قارئه من معرفته اكثر. لقد عاش سميح القاسم حالته الشعرية حتى النخاع واعطى الكثير، لهذا سيسجل اسمه بحروف من المحبة في أعلى قائمة شعرائنا الاماجد في هذه البلاد السخية المعطاء.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com