مراسل "كل العرب" واكب فاجعة رحيل النائب القيادي سعيد الخرومي حتى انتهاء أيام العزاء... وكتب رسالته من قلب المعاناة
في بيت من الصفيح مساحته نحو سبعين مترا – يحيطه شجرة الصبر تلهم الناظرين إليها بالصبر - نشأ النائب الراحل سعيد. في منزل متواضع على تلة في قرية السر مسلوبة الاعتراف، تصل إليه عبر طريق جبلية وعرة مرصوفة بحجر الصوان الصلب، ولد سعيد سليمان الخرومي في الـعاشر من يناير 1972، وشاء الله أن لا يكمل عامه الخمسين بين أحبائه وأخوانه، فرحل يوم الـ25 من أغسطس/آب 2021 وهو في ريعان شبابه، بعد أن أفنى عمره في خدمة مجتمعه خاصة في النقب كرئيس مجلس وكرئيس لجنة التوجيه لعرب النقب وبعدها نائب عن القائمة العربية الموحدة، حتى وظيفته الأخيرة كرئيس لجنة الداخلية والبيئة في الكنيست.
حين تقول ولد من رحم المعاناة، فأنك تصف وصفا دقيقا نشأة هذا الرجل الذي أحبه الجميع قبل وفاته، واثبتوا حبهم ووفاءهم له بعد وفاته، حيث قطعوا الأودية والجبال والهضاب من كافة المناطق في طريقهم إلى وداعه، على اختلاف وجهاتهم ومشاربهم وطوائفهم وانتماءاتهم الحزبية والسياسية والعقائدية – من مسلمين ومسيحيين ودروز ويهود. فالجميع يتحدث عن رجل بشوش الوجه، دمث الأخلاق يمكن أن تختلف معه ولكنك لا تستطيع أن تكرهه.. ذلك القيادي الذي كان ينهي حديثا يسمعه عن تهجم ما ضده بكلمتين.. "الله يهديهم". ذلك القيادي الذي وضع النقب وخاصة القرى مسلوبة الاعتراف بقوة على أجندة الخارطة السياسية. كيف لا وهو يعيش ووالدته وأخوانه في بيوت مهددة بالهدم.
رسالة خيمة العزاء
ملايين الكلمات كُتبت أو سُمعت خلال أيام العزاء الثلاثة عن سعيد الخرومي، بالقرب من منزله الذي ترعرع فيه وسكنه مع والدته، سالمة (أم سالم)، التي رعت أولادها بعد رحيل زوجها سُليمان يوم العاشر من يناير 1994. بناء خيمة العزاء في هذه المنطقة كان له أثرا كبيرا على المعزين من الجولان والجليل والمثلث والساحل والقدس والضفة الغربية، ولكن الحكمة من وراء بناء الخيمة كانت لتوصيل رسالة قوية جدا للوزراء في الحكومة الإسرائيلية، حيث القائمة الموحدة جزء من الائتلاف. فكافة الوزراء الذين حضروا واستقبلهم رئيس القائمة النائب منصور عباس – الذي لم يغادر النقب في أيام العزاء الثلاثة - لمسوا عن كثب كيف هي معاناة الأهل في القرى مسلوبة الاعتراف، تلك المعاناة التي تحدث عنها سعيد الخرومي نفسه مرارا وتكرارا من على منبر الكنيست، وفي المكاتب الوزارية، جسدها بصورة غير مسبوقة وعلى أرض الواقع برحيله المفاجئ.
الطريق إلى مقبرة شقيب السلام غير المعبدة كانت هي الأخرى رسالة هامة للوزراء الذين شاهدوا بأم أعينهم كيف هي الأحوال حتى في البلدات المعترف بها، وما هو حجم التمييز الذي يلاقيه العربي-البدوي في النقب ليس في الحياة فقط، بل وبعد وفاته أيضا.
منزل الراحل سعيد الخرومي
لم يترك بيته رغم أنه استطاع السكن في قصر
سعيد يعرفه الآن كل الناس. ليس فقط زملاء الدراسة في مدرسة العزازمة وثانوية جت المثلث وزملاء التدريس في ثانوية شقيب السلام، حيث عاد إلى هناك بعد أن أنهى دراسة الفيزياء بالجامعة العبرية. ليس فقط من عمل معه حين كان رئيسا لمجلس شقيب السلام، وحين كان رئيسا للمكتب السياسي للقائمة العربية الموحدة، وكنائب برلمان ناشط جدا.. إنهم لا يعرفون سعيد الإنسان فقط بل يفهمون لماذا استطاع أن يجسّد بقوة غير مسبوقة قضية القرى غير المعترف بها، حيث لمسوا أن "فارس النقب" أو "أبا محمد" – رغم أنه لم يتزوج بتاتا وظل يسكن في بيت من الصفيح مهدد بالهدم مع والدته يخدمها ويبرّها – لم يترك أرضه وبيته المتواضع بالرغم من أنه استطاع أن يسكن في قصر كبير... وكان يستطيع النوم في فندق بالقدس لو أراد أثناء الدوام في الكنيست – ولكنه أبى إلا أن يعود ليرعى أمه المريضة في ذلك البيت المتواضع، الملتهب صيفا والمثلج شتاء، ليتذكر من أين أتى ولماذا عليه أن يكون صارما حازما بكل ما يتعلق بقضية القرى مسلوبة الإعتراف.
سعيد الذي ذرفت له دموع الرجال الرجال سيكون أسمه ناصعا في سماء وأرض وتاريخ النقب والجماهير العربية عامة. فبوابة رهط الشرقية ستكون على اسمه، والقرية الرياضية التي ستفتتح في نوفمبر القادم في شقيب السلام ستكون على إسمه، وعيادة الأم والطفل التي ساهم في افتتاحها في تل السبع ستكون على إسمه.. وطفلان صغيران ولدا في رهط والناصرة أسميا على إسمه...
رحل مناضل من أجل النقب. أحبه الجميع.. وجسد هذا الحب عشرات الأطفال الذين وقفوا على طول الشارع المكتظ بعشرات السيارات في طريقهم إلى مقبرة "القبير" في شقيب السلام، في الجنازة المهيبة وغير المسبوقة، وقاموا بتوزيع الماء بعد أن كتبوا على لوحة من الكرتون "عن روح سعيد"...
وأم سالم – والدته التي فقدت زوجها في الـ18 من يناير/كانون الثاني 1994 حين كان سعيد في آخر سنة دراسية في الجامعة واحتفل بيوم ميلاده الـ22 قبلها بأسبوع، هي أعرف الناس به.. فحين جلست إلى وزير الخارجية ورئيس الحكومة بالوكالة، يئير لابيد، والذي طلب من أحد أبنائها أن يرعاها كما كان يفعل سعيد، قالت: "سعيد ما زيو حد.. سعيد راح.. الله يرحمه"...