الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الأحد 10 / نوفمبر 03:02

عناق صمت التراب -د. نائلة تلس محاجنة

د. نائلة تلس
نُشر: 29/08/21 00:08


تتزاحم عجلات حافلتها في عجل بين أقدم مدن الوطن التي نشأت فوق قواعد الحافة الغربية للغور وفي سهل بيسان الذي يعد حلقة تواصل بين وادي الأردن شرقا و سهل مرج ابن عامر غربا، وعلى انغام صوت مخملي، بكلمات تلامس القلب الحاني للماضي “أذكر يا بيسان، يا ملعب الطفولة، أفياءك الخجولة وكل شيء كان باب وشباكان بيتنا في بيسان” مناجاة تأخذها بين أطلال التاريخ وعبث المغتصبين التي تمثلت بما تبقى من حجارة مبان سوداء بازلتية متناثرة وبقايا مقبرة بأحفاف من صبار استساغ السياج ليشهد الحدود، وشجيرات عوسج صغيرة وزيتون يعتصر حبه للجذور، وخروب اشتمت به يدي والدتها التي كانت تصنع الخبيصة اللذيذة (نوع من الحلويات الفلسطينية)، وعين ماء تذكّرها بعيون مدينتها أم الفحم، كلها تنطق بفضاءات مَن تجذرت عروقهم ورُحّلت أجسادهم وبقي وجدانهم ساكنا يفوح بين سراديب التراب.
وصلت المعبر…


ان المعبر بين ضفتي النهر أشبه بالدخول الى غرفة عمليات تُفتح بها الجروح ويعبث بها حراس قد تلقوا تطعيما ضد الإنسانية، يمارسون قوانين تخضع لفيروس المزاج، الذي تنامى عبر أكثر من سبعة عقود ونيّف.
تقف عند البوابة الخارجية تحمل الجواز الذي اغتصب الهوية، يرمقها بنظرات ارتياب وشكوك بكل تفاصيلها، فحجابها المطرز بغرزة التحريري يصرخ بوجهه، واسمها المصاغ بالضاد يداهم غطرسته. يكرر نظراته من اعلاها الى اسفلها ويطلب الجواز المرجوم، ينتظر برهات يتفحص صورتها ما إذا كانت مطابقة، اما هي فتخاطب ذاتها: شدي الرحال وجمدي رجفتك وتجاهلي زمجرة الضجيج الظالم وزمزمي حطام الوطن المتناثر وخطي نسج الدرب المنشود.
فالرحلة ببدايتها وسلسلة الاجراءات المقيتة طويلة، تمر الحاجز الاول ثم تدخل الى النقطة الى ان تصل مرحلة الختم او التصريح للخروج الى الضفة الاخرى وهي مسافة خطوات معدودة، لكن مجبر كل عابر ان يمر عبر حافلة، خلالها يتم فحص كل الاوراق والجواز وضريبة الخروج وملزم أيضا الانتظار لإنهاء الاجراءات لجميع الراكبين، ويا ويلاه! ففي قلبها تدعو الله الا يكون أحد العابرين قد نسي واحدة من تلك الإجراءات، لأنه حينها سينتظر باقي الركاب حتى يرجع ويقوم مجددا من البداية بكل الفحوصات والمرور بمزاج وتطبيق اخر، وهذا قد يفقدها الوصول الى الضفة الاخرى بالموعد المحدد. هذا دون اي اعتراض ولا حول ولا قوه لأي تغيير.
إن مَن يمر أول مرة سيكون كمن تائه في غيبيات، فيبدأ بالنظر الى حوله وطرح السؤال الاول من هنا نمر…؟ ماذا بعد ذلك…؟ الى سلسلة من الأسئلة التي يتيه بها أكثر وهي اعتادت ان تسمعها وان تجيب إذا وجه لها.
يمر الوقت كسحابة تقاوم النسمات التي تحاول ان تقتلعها من مكانها الى رحاب اخر، فكأنما تتقافز قدماها على حجر الصلصال تدق قناديل الفخار تتكئ على أسياج اللهيب… وبكل قفزة بصمة تحفر موصول الوصال…هذا الوقت بحيثياته المستنسخة يضاف اليه بعض من توابل مقيتة تمر بها مرتين أسبوعيا، الا ان مغادرة النقطة بين ضفتيّ النهر هي العملية الاسهل بعبث الجروح من عملية العودة الى رحاب الوطن، فبالنسبة لهم مغادرتها دون عودة حلمهم الأبدي الذي لم ولن يتحقق.
(يتبع…)

مقالات متعلقة

.