هناك مثل عربي يقول:" مش كل مرة بتسلم الجرّة". وأنا أسمح لنفسي بتحوير المثل إلى: "مش في كل خطة بتفشل الفكرة". فإذا كانت الخطة التي وضعها سجناء فلسطينيون للهرب من سجن إسرائيلي في شهر تموز/يوليو عام 1958 قد فشلت، وخطة أحرى للهرب، لم يكتب لها النجاح أيضاً في العام 2014، إلا أن الخطة هذه المرة التي وضعها ستة سجناء فلسطينيون أربعة منهم محكوم عليهم بالمؤبد، قد نجحت بشكل لا مثيل له أفقد إسرائيل صوابها وحيّر عقول العالم ولا سيما خبراء السجون.
عملية سجن جلبوع الأخيرة تختلف كلياً عن سابقتيها لأنها جاءت بظروف مغايرة تماماً على الصعيدين الفلسطيني والعربي لأنها عملية نوعية أثارت اهتمام العالم،لسببين: أولهما أنها حدثت في إسرائيل التي تعتبر نقسها أم الإجراءات التحصينية الأمنية ولم تحدث في جمهورية من جمهوريات الموز، وثانيهما أن العملية تم تخطيطها وتنفيذها في سجن يعتبر من أقوى السجون تحصيناً ليس في إسرائيل فقط بل في العالم أيضاً. وهذا السجن المعروف بأنه “سجن الخزنة” بسبب إحكام الإجراءات فيه، لمنع أي محاولة فرار منه. أُنشئ بإشراف خبراء أيرلنديين وافتتح في العام 2004 في منطقة بيسان.
المعلومات المتوفرة عن كيفية قيام السجناء الستة حفر النفق، تقول أن السجناء استخدموا ملعقة في حفر الخندق. هذه الرواية عن السجناء تذكرني بقصة عن ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا أيام الحرب العالمية الثانية: ذات مرة كان تشرشل مع زعماء “الحلفاء” يشربون القهوة في أحد مقاهي لندن، وكان بجانبهم حوض سمك فيه سمكة.
التفت أحد الزعماء، وقال: دعونا نحاول مسك هذه السمكة، فإذا استطعنا سنربح الحرب. وبدأ كل منهم يحاول جاهداً للإمساك بالسمكة ولكن دون جدوى، فسرعة السمكة على الانزلاق حالت دون القدرة على مسكها. وعندما وصل الدور إلى تشرشل، لم يحاول مسك السمكة بل استعمل أسلوباً آخر. فقد تناول الملعقة الصغيرة التي كان يحرك بها القهوة وراح ينقل الماء ملعقة ملعقة خارج الحوض. صحيح أن العملية استغرقت وقتاً طويلاً لكنه في النهاية نجح في الإمساك بالسمكة.
ولذلك دخلت ملعقة تشرشل التاريخ تماماً كما دخلت ملعقة حفّاري النفق السجناء الستة الذين حطموا عنجهية إسرائيل بالتباهي بقوة حصانتها الأمنية، وحرروا نفسهم ذاتياً تاركين وراءهم قيادات عسكرية وسياسية وأمنية تتخبط في تأويلاتها بإيجاد تفسير لما جرى.
ما قام به السجناء الستة هو عمل بطولي مضاعف: حفر النفق والهروب. هذه العملية هبطت كالصاعقة على رؤوس كافة القيادات لإسرائيلية بدون استثناء وأصابت بشكل خاص مصلحة السجون التي هي جزء من النظام الأمني في الدولة العبرية. والعملية المفاجئة لإسرائيل تحمل في طياتها رسائل عديدة منها:
أولاً، أن الفلسطيني لديه القدرة على الإبداع في المقاومة حتى وهو داخل السجون. ثانياً، أن السجناء الفلسطينيين حوّلوا زنزاناتهم الى معاهد لتأسيس كوادر لها خبرة في مقاومة الاحتلال، وثالثاً فشل الاجراءات الأمنية الإسرائيلية في منع السجين الفلسطيني من التفكير في مواصلة المقاومة.
الصديق بسام أبو شريف المستشار السياسي الخاص السابق للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، يقول في مقال له حول عملية الهروب:"ظهر في الساحة الفلسطينية من ينادي بإعادة هؤلاء الاسرى للسجن، وان يقضوا المدد المحكومين بها داخل السجن اسوة ببقية الاسرى، وهذا الاعلان من هذا الطرف يدل دلالة واضحة على مشاركة مؤسسات فلسطينية غارقة في التنسيق الامني مع اسرائيل، في عمليات الملاحقة والبحث، من أجل القبض على الاسرى الذين تمكنوا من تحرير أنفسهم، وتمكنوا حتى الان من النجاة من كل حملات الملاحقة التي لم يسبق لها مثيل بتاريخ اسرائيل." عار عليهم، لكن العيب من أهل العيب ليس عيباً.
عملية الهروب من سجن جلبوع والتي نفذها الأبطال الستة، وجهت صفعة كبيرة للمنظومة الأمنية لإسرائيل وبرهنت بصورة جلية على العزيمة القوية للفلسطيني، وأثيتت أن هؤلاء رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وسجلوا في صفحات التاريخ شكلاً مميزاً من أشكال النضال، وضربوا أروع الأمثلة في النضال من أجل الحرية، فتحية لأولئك العباقرة البواسل.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com