باسم الله الرحمن الرحيم
والصلاةُ والسَّلامُ على سَيِّدِ المُرْسَلِين أشْرَفُ الخَلْقِ أجْمَعِين
25.09.2021
قراءة في ديوان الشاعرة سحر بيادسة – من باقة الغربية: على ضفاف الحنين.
يقولُ الشاعرُ الفيلسوفُ جبران خليل جبران في خاتمةِ كتابهِ «دمعةٌ وابتسامةٌ» الصادر في العام 1914:
" جئتُ لأقولَ كلمةً؛ وسأقولُها، وإذا أرجَعَني الموتُ قبلَ أن ألفُظَهُا يقولُها الغَدُ. فالغدُ لا يترُكُ سِرًّا مكنونًا في كتابِ اللانِهايةِ... جئتُ لأحيا بمجدِ المحبةِ، ونورِ الجمالِ، وها أناذا حيٌّ، والناسُ لا يستطيعونَ إبعادي عن حياتي. إنْ سَمَلوا عَينَيَّ، تمتَّعتُ بالإصغاءِ لأغاني المحبّةِ... وَإنْ طَمسُّوا أُذُنَيَّ، تلذّْذتُ بِمُلامسَةِ أثيرٍ ممزوجٍ بأنفاسِ المحبّين، وأريجِ الجمالِ... وإنْ حجبونِي عن الهواءِ؛ عِشتُ ونَفْسي، فالنفسُ ابنةُ الحبِّ والجمالِ... جئتُ لأكونَ للكلِّ وبالكلِّ، والذي أفعلُهُ اليومَ في وَحْدَتِي، يُعلِنُهُ المستقبلُ أمامَ الناس... والذي أقولُهُ الآنَ بِلِسانٍ واحدٍ؛ يقولُهُ الآتِيَ بألْسِنَةٍ عَدِيدَةٍ " (نهاية الاقتباس).
باللهِ نستعينُ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين على كلِّ نِعَمِهِ، وإنّها لنعمةٌ كبيرةٌ جدًا وفائقةُ الأهميةِ، أن تولدَ من نساءِ بلادِنا أختٌ تكتُبُ مشاعِرَها وإيحاءاتِها لأبناءِ المجتمعِ، لتكونَ عبرةً ومثالاً للناسِ يُحتذى حَذوُهُ، السيدةُ الشاعرةُ الدكتورةُ سحر عبدالله بيادسة المحترمة، اللَّبِقةُ الناضجةُ فكرِيًّا لدرجةِ العبقريَّةِ، المثقَّفةُ التي اجتهدَت في تثقيفِ نَفْسِهَا، لتُصبحَ قِمّةً في عَقلِها وفِكرِها، وحُسنِ تصرُّفاتها، وقُوَّةِ شَخْصِيّتِها وروحِها الطيِّبَةِ.
لك يا أيّتها الشاعرةُ الأختُ سحر حضورٌ رائعٌ، وقوةُ شخصيَّةٍ لا مثيلَ لها تدفعُ بكِ إلى الأمامِ بالتعابيرِ والكلماتِ؛ لِتُكَوِّنِي بديوانِكِ "على ضفافِ الحنين"... رائعةً من روائِعِ الأدبِ والفكر... سلامًا على منْ يمتلكونَ براءةَ القُـلوبِ في زمنٍ عزَّتْ فيهِ المشاعرُ والكلمةُ الطيِّبَةُ... وتذكَّرُوا جميعًا أنَّ للقلوبِ الطيبَّةِ الصَّافيةِ الّتي تُثْمِرُ حُبًّا وَتُعْطينـــا الأملَ في الحيـاةِ محبةً إلَهيَّةً وحمايةً من عِندِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ... سلامًا من عميقِ فُؤادي ونسماتِ الروحِ، لـِمنْ يملِكُونَ جمالَ النَّفسِ، وَصفاءَ النيةِ، ونقاءَ القلوبِ الّتي لا تَعرفُ سوى الإخلاصِ والوفــاءِ والعملِ الصالحِ.
لقد هُمِّشَتْ السيِّدَةُ والأمُ والبِنتُ في مُجتمعِنَا الشرق أوسطي المُحافظِ، على مدارِ قُرونٍ منَ الزمَنِ؛ بالرَّغْمِ منْ أنّها كانَتْ لتَكونَ الإنسانَ الأولَ كامِلَ الصفاتِ، كاملَةَ الحُقوقِ مُتساويةً بالرِّجالِ تماماً، ولِتهميشِهَا هذا ومُلاحَقتِها وعدمِ الاكْتِراثِ بها واعتبارِها متمرِّدَةً على عاداتِ وتقاليدِ المجتمعِ، أثرٌ سلبيٌّ كبيرٌ في شَتَّى المواقعِ الاجتماعيةِ، فَحِرمانُهَا من التعبيرِ عن رأيِهَا وعدمِ تثقيفِهَا وتَعليمِهَا عادَ بالأمورِ السلبيَةِ والضَرَرِ على المجتمعِ بأسْرِهِ، والحمدُ لله تعالى، أنّنا بتنا نرى في العَقدِ الأخيرِ والذي سَبَقَهُ، ظُهورَ المرأةِ حتى المتديِّنَةِ في شَتّى المجالاتِ، فَنَلْتقي بِهِنَّ في المدارسِ والجامعاتِ والمستشفياتِ والمؤسّساتِ المختلفَةِ... وهذا بِحَدِّ ذاتِهِ تَطَوُّرٌ نحوَ مستقبَلٍ إيجابيٍّ أفضلَ لنا جميعاً بكل المعاييرِ والمقاييسِ، وأنا شخصياً أعتزُ وأفتَخِرُ بِكُنَّ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ، فَمَن عَلَّمَ شابًّا في الجامِعَةِ عَلَّمَ شخصًا واحدًا، ومَنْ علَّمَ فتاةً عَلَّمَ أسرَةً ومُجتَمَعًا كامِلاً.
الحريَّةُ مبدأُ التفاهُمِ والحِوارِ، شَريطَةَ أن لا نستَغِلُّها بِأنانِيَةٍ لِأنفُسِنَا فقط، فمن لم يفهم هذا المبدأَ الأوَّلَ في كلِّ مَضامينِ الحياةِ لن يتطوَّرَ بفكرِهِ، ولن يُنجِزَ في خدمةِ مُجتمعهِ شَيْئًا، فما نَرَضى بهِ لأنفُسنِا يَجِبْ أنْ نَرضَى به لغيرِنَا، والعَكسُ هو الصَّحيحُ... في الآوِنَةِ الأخيرَةِ تَغَيَّرَ مَفْهومُنا للحُريَّةِ والديمُقْراطيَّةِ... وبِتْنا نَرضَى بها لأنفُسِنا فقط، وهذا الأمرُ هو السببُ الأولُ والقاعدةُ الأولى لكثرةِ مُشكلاتِنا المُعقَّدَةِ جداً بين أبْناءِ المُجْتمعِ الواحدِ، وتَراجُعِ قيمَةِ الانْتماءِ لمُجتمَعِنا على اختِلافِ طَوائِفهِ، ونَأملُ أنْ نَتطَوَّرَ بمَفاهِيمِنا، ونَرتقِيَ بِفِكْرِنا وعُقُولِنا في كُلِّ المَجالاتِ؛ حتَّى يُصبحَ ظُهورُ سيِّدَةٍ شاعرةٍ أو كاتبةٍ أو طبيبةٍ أو مُمَرِّضةٍ أو مُهندسةِ ديكورٍ... تعملُ بِشَرفٍ واجْتِهادٍ في تقديمِ خَدَماتٍ لا غِنَى عَنْها، وتخدِمُ مُجتمَعَها بِشَرَفٍ، أمرٌ طَبيعِيٌّ... بَلْ وعنصُرٌ عَظيمٌ من مقوماتِ بناءِ مجتمعِنَا بناءً قَويمًا سَليمًا مَتينًا...
الحضورُ الكريمُ، وحضرةُ الشاعرةِ سحر، مسموحٌ لنا أن نحلُمَ بكُلِّ شيءٍ؛ حتَّى بأحلامِ اليقظةِ، مَسْموحٌ لنا أنْ نحلُمَ بالوَطَنِ والحرِّيةِ والمستقبلِ والمُساواةِ والارتِقاءِ في بناءِ المجتمعِ... وتحضُرُني المقولةُ التاليةُ من أحَدِ كُتُبي:
"الشُّعَرَاءُ والأُدَبَاءُ حَامِلُو رَاياتِ الشُّعُوبِ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ مَا يَجيشُ فِي صُدُورِ الْمَلاَيِينِ العَاجِزِينَ أَمَامَ الكَلِمَاتِ وَكِتَابَتِهَا. عِلمًا أنَّ الكَلِمَةَ الرَّائِدَةَ والهاَدِفَةَ، تعيشُ فِي ذَاكِرَةِ التّارِيخِ أَكْثَرَ بِكَثِيرٍ مِنْ عُمْرِ الإنْسَانِ الَّذِي كَتَبَهَا، فَيُخَلَّدُ بِهَا الإنْسَانُ عُمْرًا آخَرَ كَعُمْرِ الكَلِمَاتِ، وهذا ما نفهَمُهُ من مضمونِ ديوانِكِ في مَسيرَةِ الحَياةِ".
استَهَلَّتِ الشاعرةُ ديوانَها في ص: 6 - وما أجملَهُ من استِهْلالٍ عن الرَّسولِ الكَريمِ الأمينِ، الذي أتى بالسَّلامِ والأمانِ للعالَمين، يُنصِفُ المُستَضعَفينَ، ويُحَرِّرُ العَبيد مِنْ عُبودِيَّتِهِم... هذا هو رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلم، وتُضيفُ من صِفاتِهِ الطيِّبَةِ وعطرِ ذكرِهِ ما لا يُسْتَوْعَبُ بمفاهيمِ إنسانِ هذا الزمَنِ.
"الرسولُ الأمينُ
يا رسولًا جئتَ للدُنيا بالسَّلامْ
جئتَ بضياءٍ من الخالقِ المِتْعالْ
يا نبيَّ المُستضعفينَ الأبرارْ
يا مُحَرِرًا للعبيد والأرحام
مَوْلِدُ الحَبيبِ بُشرى للجِنان".
وتتابِعُ الشاعرةُ في سَردِ أحداثٍ هامَةٍ وصفاتٍ طيِّبَةٍ عنِ الرسولِ الكريم:
"في قريشٍ وُلِدتَ وكانَ عيدْ
ويَثرب تَوَفيْتَ وأبقيت الوعيدْ
جَمَعْتَ مِن البَشرِ وسائِرِ الشُّعوبْ
نحو مكة شُدَّتِ الرِّحال
قد مَضَيْنا على الوِصَالِ يا أفضلَ الأخيارْ
فِيكَ اعتَدَلَ المِيزانُ، وفِيكَ اكتَفَيْنا بِالحَلالْ
يا رسولَ اللهِ سَلامًا من أرْضِ السَّلامْ
رحمةً منْ عندِ اللهِ، وشَفَاعَةً يومَ الزحامْ".
وفي قصيدةِ: "أينَ الرَّدُّ" ص: 10؛ تبادرُ الشاعرةُ بالحَديثِ عن شُعورِها مِمَّا يُكسِبُها جُرأةً كسَيِّدَةٍ في مُجْتمعِنا الشَّرْقيِّ المُحَافِظِ، فَتَكْتُبُ في قَصِيدَةِ: "أينَ الردُّ":
"أين الرَّدُّ
جلستَ بينَ أضلُعي
فعادَ إليَّ النبض
تركتُ شهوة المعاصي
تركتني وأنا في صمت
حالفَكَ الحظُّ كثيرًا
أمّا أنا: فتركتُ عند الحدِّ حَدًّا
قالوا عنك حكيمًا ناجحًا
فَفَرِحْتُ لك في صَمْتْ
بقيتَ رغم قسوتِكَ تحاوِرُ عُيُونِي
لكني حَنَيتُ رأسي دون رَدْ
كُلما احْتَجتُ نَبْضَكَ؛ أتيتُكَ
أختَلِسُ النَّظَرَ من بُعدْ
لا عِلمَ لي: هل شَمَمْتَ عِطري؟
أم أخفَيتَ الرَّدْ؟"
ما أروَعَها من حالةِ عشقٍ أفلاطونِيَّةٍ! تغازِلُ المحبوبَ وتتَمَنّى له كلَّ الخيرِ، وتُسعَدُ لنَجاحِهِ... ولكنَّهُ لا يكتَرِثُ لها، ولا يُرسِلُ لَها ردودَ فعلٍ على وَفائِها ومَحَبَّتِها البَريئَةِ له... وهو يُخفي كلَّ الإشاراتِ عَنها! حالةٌ تكادُ تَمُرُّ فيها كُلُّ صبايا مُجتَمَعِنا وشَبابِهِ، لَعَلَّهُمْ يَتَعلّمونَ الصَّراحَةَ والصِّدْقَ والوُضُوحَ في التَّصَرُّفاتِ والتَّعَامُلِ مَعَ الآخَرين، دُونَ مُراوَغَةٍ، ودونَ اشتِمامِ العِطْرِ الأخّاذِ خِلسَةً، وبدونِ حَقٍ.
قَصِيدَةٌ لَفَتَتِ انْتِباهِي دُونَ كلِّ قصائِدِ الدِّيوَانِ، بعنوان: "على قَيدِ المَمَات" ص: 12
"على قيدِ المماتِ
أنا على قيدِ المماتِ
وأنتَ بانتظارِ إعْلانِ وَفَاتي
اعتَلَيْتَ المِنْبرَ وقُلْتَ
ما ليْسَ يُقالُ بِحقّي
جعلتَ الغرورَ في أنفِك
فَلَمْ تَعُدْ تَرَى أحْزانِي
قَبِلْتُ العَيْشَ بِظلِّكَ
وتَنازَلْتُ لكَ عن رُوحِي
لمْ تُقَدِّرْ رُوحي، واعْتَرفتَ
بأنّي ضَعِيفَةٌ أمَامَ عُيوبي
أعَدتَني لِسَابِقِ العَهْدِ
في غَرَقِي وأَلَمِي وأَحْزاني
لمْ تَكْتَفِ بذلك
فَضَّلتَ الصَّمْتَ على أن تُلَملِمَ جُرُوحِي
ها أنا أمُوتُ من حُرقَتي عَليكَ
وأنتَ تَجْلِسُ وتُشَاهِدُ انهِيارِي
لا تُقَدِّر حُبي لكَ
وإِنِّي بِعْتُ الدُّنْيا والآخِرَةَ لأجْلِكَ"
تناغُمٌ عكْسِيٌّ جَميلٌ جدًا للغةِ، عادةً يقولُ الإنسانُ ما هو متعارَفٌ عليه: "على قيدِ الحياةِ "، وهنا تأتينا الشاعرةُ سحر بتعبيرٍ جديدٍ "على قيدِ المماتِ"، تَقلِبُ الفكرَةَ والمضمونَ بشجاعةٍ، تضَعُ خاطرةً جديدةً أمام القارئ، ليُنْجِزَ بِنَفْسهِ فِكْرَةً جَدِيدةً يَتَّضِحُ منها المُثولُ أمامَ البساطَةِ والعبقريَّةِ، والإخْلاصُ والوَفَاءُ للحبيبِ في آنٍ واحدٍ، وهو -هذا الحبيبُ- لا يُقدِّرُ حبيبَتَهُ حتَّى لَوْ ضَحَّتْ بِحَياتِها مِنْ أجْلِهِ، وَكَأنَّي بهِ يَصْعَدُ مَنابِرَ –شوفوني- لِيَقولَ ويُعلِنَ على المَلَأِ: (يا ناس؛ فلانة بنت فلان تحبني وتريدني أن أخطبها!)... وهِي البَسيطَةُ المِسكينَةُ الوفيَّةُ الصامِتَةُ تَظهَرُ بقوَّةِ شَخْصِيَّتِها وثَباتِها على ما تَرَبَّتْ عليهِ، فلا تَأسَفُ على ما ضَحَتْ بهِ مِنْ أجْلِهِ، وتُتَابِعُ تَمنِّياتِها ودَعَوَاتِها لهُ بالخَيْر، وهذهِ الحالَةُ الوجدانِيَّةُ موجودَةٌ في كلِّ قُرانا ومُدُنِنا، وفي بلادِ الشرقِ الأوسِطِ كُلِّها... والشَّاعِرةُ سَحَر هُنَا تُريدُ أنْ تُحَذِّرَ النَّشْءَ الجَديدَ مِنَ الامتِثالِ بِهذهِ الحَالاتِ الإنسانِيَّةِ الشَّاعِرِيَّةِ العُظْمَى في مُجْتَمَعِنا.
تُتَابِعُ الشَّاعِرَةُ قَصَائِدَهَا وكَأنَّها تَسْرُدُ عَلَيْنا قِصَّةً واقِعِيَّةً تَحْدُثُ كُلَّ يَومٍ، وفي ص: 68 تَكْتُبُ قَصِيدةً قَصِيرَةً لا تَتَعَدَّى الخَمْسَةَ عشرةَ كَلِمَةً، لكِنَّ مَعْناهَا وأثَرَها يُدْخِلُ القَارِئَ المُتَمَعِّنَ لبئرٍ مَليءٍ بالأفْكَارِ والتَّسَاؤُلاتِ، فَكَيفَ لِهذِهِ الكَلِماتِ أنْ تَفْعَلَ بِنا مَا فَعَلَتْ:
"مُسْتَحِيلْ
يعانِقُني الألمُ بِثَباتْ
ذاكَ المُسْتحيلْ
أصْبَحَ دَخِيلًا
زَرَعَ بِداخِلي القَلقَ
وعايَشَنِي
كأنَّهُ في أَحْشَائِي أسِيرْ"
تَتَعَمَّدُ الشَّاعِرةُ هُنا؛ وفي الكَثيرِ مِنْ قَصَائِدِها على الشِّعرِ السَّهلِ المُمْتَنَعِ، فَنَظنُّهُ سَهْلًا بَسِيطًا للفَهْمِ، ولكِنَّهُ مُمْتَنَعٌ عَميقٌ في المَقْصُودِ، ومِنْ وَراءِ الكلِمَاتِ تَظْهَرُ لَنَا بَعْدَ تَفْكيرٍ مُرْهِقٍ ومُضْنٍ... أمورٌ كثيرةٌ تستَتِرُ في ظِلِّ المَضْمُونِ، تَخَيَّلوا هذا المُسْتحِيلَ المُقلِقَ المُحْزِنَ إنْسَانًا يَعِيشُ بِدَاخِلِنا كَأسيرٍ! ومَعْروفٌ في عُرْفِنا مَا هِي مُعامَلَةُ الأَسِيرِ وَهُو حَيٌّ مَعَنا، ولكِنْ مَا هِيَ مُعَامَلَتُهُ وهو يَعِيشُ بِداخِلِ أحْشَائِنا؟ فَيُسَيْطِرُ هذا المُسْتَحيلُ على كُلِّ قُدُرَاتِنا!
قصيدة أمي ص: 69
"أمي
لا أُكلِّفُ نَفْسي فَوْقَ طاقَتِها
لا غُرورٌ
لا خُبثٌ
القَهْوةُ أهَوى
والثَّرْثَرَةُ أكْرَهُ
نُمْسِي ونُصْبِحُ
الدُّعاءُ ...الصَّلاةُ
أشْتَاقُ لِأُمِّي"
هُنا تَصِفُ الشَّاعرةُ بِقُدْرَتِها نَمَطَ حَيَاةٍ كامِلٍ مِنْ دُونِ كَلماتٍ، تَتَحَدَّثُ عَنْ شَخْصِيَّةِ أُمِّهَا، وفي الوَاقِعِ؛ الشَاعِرَةُ تَرْوي لنا عّنْ شَخْصِيَّتِها الكَثِيرَ مِنَ الأشياءِ، فتقولُ: إنَّهَا عَبْدَةٌ للهِ تَعالى، ولا تُكَلِّفُ نَفْسَها فَوْقَ طَاقَتِها، هذهِ النَّفْسُ المُتَواضِعَةُ لا تَحمِلُ الغُرُورَ، وَلا تَحْمِلُ الخُبْثَ، وهِيَ كَبَاقِي نِسَاءِ الحَيِّ الذي تَعِيشُ فِيهِ، أو كَبَاقِي نِساءِ المُجْتَمَعِ اللَّوَاتِي يَجْتَمِعنَ في فِنَاءِ الدَّارِ وَأَزقَّةِ الحَارَاتِ، ليَحْتَسِينَ القَهْوَةَ الصَّبَاحِيَّةَ، ولكنّ شاعِرَتَنا لا تحبُّ ثَرْثَرَتَهُنَّ وخَيالَهُنَّ الوَاسِعَ، وَلكِنّها تُحِبُّ الشَّيءَ المَلْمُوسَ على أرْضِ الوَاقِعِ، تُحِبُّ القَهْوَةَ... وَتَدُورُ الأيَامُ، وَيَمْضِي الزَّمَنُ، وَنُمْسِي ونُصْبِحُ في كُلِّ الأَوْقاتِ... تَشْتَاقُ الشَّاعِرَةُ لأُمِّهَا، وهي –الشَّاعِرَةُ- تَقُومُ بِوَاجِبَاتِها الدِّينيَّةِ؛ تُصَلّي وَتَدْعو لِأمِّهَا مِن شِدَّةِ اشْتِيَاقِها لَها لِبُعْدِها عَنْها... ولَرُبَّمَا تَكُونُ مُتَوَفّاةً، فَتقرَأُ لها الفاتحَةَ، (فإذا كانت والدَتُكِ مُتَوَفّاةً رَحَمَها الله العلي القدير وأسْكَنَها فَسِيحَ جَنّاتِهِ)، وهُنا فَقَط نَفْهَمُ سِرَّ هذا الشَّوْقِ.
وفي قصيدة: "حسناء" تنتقلُ الشاعرةُ إلى مضمونٍ جديدٍ، فتسرُدُ بكلِماتِها بكلِّ بساطةٍ حالَ المَرأَةِ العَرَبِيَّةِ، فَتُطِيلُ الحَديثَ عَنْها، وعَنْ نَمَطِ الحَيَاةِ البَسِيطِ الذي لا يَرْقَى بالمَرْأةِ نَحْوَ الحَضَارَةِ والتَّطَوُّرِ... بَلْ تَكَادُ تَخْتَفِي في مَنزِلِها عَنِ البَشَرِ، وإذا مَا خَرَجَت؛ تَلْبِسُ ثَوْبَ العِفَّةِ والبَراءَةِ التّي تُخْفِيها في عُيونِهَا، وَمَعَ كُلِّ تِلْكَ البَسَاطَةِ لا تَتَخَلّى الشَّاعِرَةُ عَنْ حُرِّيَّتِها، وتُجَمِّلُها بمَساحيقِ عَصَرِنا وَأحمرِ الشِّفاهِ، وتُرِيدُ أنْ تَمْتَلِكَ السِّيارَةَ الخَاصَّةَ بِها، ولِباسَها العَصْرِيَّ الغَرْبِيَّ النَّمَط... وهُنَا تُسْدي النَّصِيحَةَ لِنِسَاءِ مُجْتمَعِنا وبَناتِنَا... وَعَلَيْهِنَّ الاخْتِيَارُ بَينَ الحَالاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ في التَّصَرًّفاتِ في المَلْبَسِ والمَشْرَبِ والحُريَّةِ المُطْلَقَةِ والسَّفَرِ والتَّنَقًّلِ كَمَا في الغَرْبِ، أمْ المُحافَظَةُ والتَّسَتُّرُ بِالعِفَّةِ كَمَا في عَاداتِنا وتَقالِيدِنا في الشَّرقِ؟ فَهذِهِ تُمَثِّلُ حَالَةَ صِدامٍ بَيْنَ الثَّقَافاتِ والحَضَاراتِ (أترك لكم التمتع في قراءةِ القَصيدةِ).
وفي قَصِيدَةِ: "لا تَكُنْ مَغْرُورًا" ص: 104 - تُناشِدُ الشَّاعِرَةُ؛ وكَمَا تُنَاشِدُ كُلَّ صَبَايا مُجْتمَعِنا الشابَ الوَسِيمَ الذي رَسَمَتْهُ في أحْلامِهَا، وتُطالِبُهُ بَعْدَ أنْ تَعَرَّفَ إليْهَا وتَرَكَهَا... أنْ لا يَكُونَ مَغْرُورًا، فالعَلاقَةُ الطَّيِّبَةُ التِّي كانَتْ بَيْنَهُمَا؛ مَا هي إلا نَتيجَةٌ لِحُلُمٍ جَميلٍ لِكِلَيْنا، فَكَيْفَ لَكَ أنْ تَسْتَهْتِرَ بهِ وتًمْضِي... وَكَأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ؟ فَلا تَتَكَبَّرْ، فَهُنَاكَ رَبٌّ أعْظَمُ، وفِي دَقَائِقَ تُوُفِّيَ، ورُفِعَتْ روحُهُ إلى السَّمَاءِ.
وَهَكَذا تُتَابِعُ الشَّاعِرةُ سَحر عبدالله بيادسة طَرْحَ الأحْداثِ والأفْكَارِ... فَتَأْخُذُنا في قِطَارِ الزَّمَنِ بِرِحْلَةٍ جَمِيلَةٍ، فَتَتَحَدَّثُ عنْ يَومِ الأرْضِ والوَطَنِ وفِلَسْطِينْ... وتَحْلُمُ بِالحَياةِ والوَاقِعِ، وتَرْتِيبِ المُسْتَقبَلِ، والإدَارَةِ للمُجْتَمَعِ، وَبِنَاءِ جُسُورِ الوُدِّ والثِّقَةِ بَيْنَ أفْرادِهِ... وتُدَوِّنُ أمْنِيَاتِهَا لهذا العَالِمِ بِمَحَبَّةِ الرَّحْمنِ تَعالى، والإيمَانِ باليَوْمِ الآخِرِ، وَرَفْعِ رَاياتِ الحُرِّيَّةِ... وَخَاصَّةً تَتَحَدَّثُ عَنْ صَديقَتِهَا فتقول:
"صديقَتي
دَعِيني أعْزِفُ
فيَنْبِضُ قَلْبُكِ أغْنِيَةً
حُرُوفُهَا نُسِجَتْ مِنْ خُيُوطِ الشَّمْسِ
وَحَلاوَتُهَا كَعَناقِيدِ العِنَبِ"
وَهكَذا دِيوانُكِ حَضْرةَ الأختِ الشاعِرَةِ الدكتورَةِ سَحَر عبدالله بيادسة، حَلَاوَتُهُ في التَّوْجِيهِ والإرْشَادِ لِأبْنَاءِ وَبَنَاتِ مُجْتَمَعِنَا الشَّرْقِيِّ المُحَافِظِ كَحَلاوَةِ عَناقِيدِ العِنَبِ، وبِكُلِّ بَسَاطَةٍ كَتَبتِ بَيْنَ دَفَتَي الدِّيوان عَنْ المَرْأةِ العَرَبِيَةِ الأَصِيلَةِ الأَبِيَةِ، التِّي تَلَثَمَتْ بالعَفَافِ وَتَجَمَلَتْ بِرُوحِهَا وَقَلْبِهَا وَفِكْرِهَا بِالبَرَاءةِ والمَحَبَّةِ والخَيْرِ والوَفَاءِ والتَّضْحِيَةِ والعَطَاءْ، وَهِي بِحَاجَةٍ لِرَجُلٍ أصَيلٍ أبيٍّ شَهْمٍ، يَصُونُها وَيُقَدِّرُها طُولْ العُمْرِ، لذلكَ نُطالِبُكِ بِمَزيدٍ مِنَ العَطَاءِ الأدَبِيِّ الفِكْرِيِّ المُمَيَّزِ.
وأخيرًا، أنّي تعَرَّفتُ إليكِ شَاعِرَةً وَأدِيبَةً وَكَاتِبَةً، ومُعَلِّمَةً ومُرَبِّيَةَ أجيالْ، وأَهَمُّ مِنْ هذا كُلِّهِ أنَّكِ إنْسَانَةٌ بِكُلِّ مَا تَحْمِلُهُ هذهِ الكَلِمَةُ مِنْ مَعانِي إنْسَانِيَّةٍ، وبِكُلِّ مَا تَحْمِلُ مِنْ تَقْدِيرٍ واحْتِرامٍ وخَيْرٍ وَطِيبَةٍ لِكُلِّ بَنِي البَشَرِ، إنْسَانَةٌ مُتواضِعَةُ بَسِيطةٌ تَكْتُبُ مَشَاعِرَها لَنَا جَمِيعاً، آمِلَةً أنْ تَصلَ أفْكَارُهَا إلى كُلِّ مَكانٍ، لِنَتَعَلَّمَ مِنْها كُلَّ الحَالَاتِ الاجْتِمَاعِيَةِ، المَسْمُوحَةِ وَغَيْرِ المَسْمُوحَةِ فِي مُجْتَمَعِنَا،
أنا أعْتَزُّ بِكِ، أنا أفْتَخِرُ بِكِ وبِكُلِّ أبْناءِ وبَناتِ مُجتمَعِنا العِصَامِيّينَ المُتَألّقِينَ أمثالِكِ، ونُبارِكُ لكِ إصدارَكِ هذا، ونحنُ في انتِظارِ المزيدِ، ونطالِبُكِ الإكثار منَ العطاءِ الأَدَبِي والثقافي لرفع المستوى الثقافي في البلاد بشكل عام.
باحترام.
الفقير لله تعالى، الشيخ الدكتور
رافع خيري حلبي – دالية الكرمل