تحلّ اليوم، الثامن والعشرين من أيلول، ذكرى رحيل الزعيم القومي والقائد العروبي الكبير، حبيب الملايين، ومفجر ثورة يوليو العظيمة، التي تعتبر بحق وحقيق ثورة الشعوب العربية على امتداد وطول مسيرتها الكفاحية التحررية من أجل وطن حر وشعب سعيد.
وما زلت أذكر الجنازة الأسطورية لأبي خالد، وهي الجنازة الأكبر في التاريخ العربي، وأكبر تجمع بشري وأعظم وحدة وجدانية عرفها كوكبنا الأرضي، تقاسم فيها ملايين البشر النحيب والدموع والأسى والحزن العميق.
ما قدمه عبد الناصر لا ينكن أن تخطئه عين من مشروعات نهوض اقتصادي وبناء اجتماعي ودعم الدولة لخدمات التعليم، والصحة والقطاع العام والتأميم، والسد العالي، ومواجهة الاستعمار، واستعادة القيمة السياسية للدولة المصرية وتعميق الشعور بالكرامة الوطنية، وبناء دولة المؤسسات، فضلًا عن مجانية التعليم وتأميم قناة السويس، واستعادة تاريخ مصر المنهوب من الاستعمار، والإصلاح الزراعي، وريادة مصر عربيًا وانفرادها بصناعة القرار المصري، وهزيمة قوى العدوان والاستعمار في معركة العدوان الثلاثي، وتحقيق أحلام الفقراء وبسطاء الشعب، في المسكن والصحة والتعليم والعمل والكرامة.
لقد أسهم الراحل عبد الناصر في الحياة السياسية المصرية والعربية، وارتبط بقضايا الوحدة والقومية والعربية، مؤسسًا للفكر الناصري، أو ما يسمى بـ "التيار الناصري الوحدوي، وسعى دائمًا من أجل وحدة الأمة العربية، مكرسًا حياته في الدفاع عن قضاياها المصيرية، مناصرًا للحق، ومقاتلًا في سبيل الحرية والاستقلال والإصلاح والديمقراطية، وظل حتى آخر رمق في حياته متمسكًا بموقفه الجذري تجاه القضية الفلسطينية، التي كان يعتبرها قضيته الأولى، وتراثه القومي والوطني والثوري سيبقى زادًا وسلاحًا تستلهمه وتشحذه الشعوب العربية في ثوراتها ضد أنظمتها الدكتاتورية المتعفنة، وفي سبيل الإصلاح والتغيير، وبناء المجتمع المدني الحضاري.
وضع جمال عبد الناصر رؤيته العميقة الشاملة أساسًا لمسيرة الشعوب العربية ومستقبلها من خلال منظور الوعي القومي الملتزم بقضايا ومسائل وجودها وتحررها، ونبه في أكثر من خطاب له إلى ضرورة مقاومة ومجابهة الاخطار المحدقة بالمشروع القومي الوحدوي العربي، داعيًا إلى النضال المشترك وتحقيق الوحدة العربية وإرساء ميثاق الدفاع العربي المشترك.
عبد الناصر شكل حالة سياسية وقومية فريدة من نوعها في التاريخ العربي، وحالة قيادية لن تتكرر، وهو لم يحدث تغييرات نوعية وجذرية فحسب، وإنما لعب دورًا مصريًا وعربيًا وعالميًا، يشهد له التاريخ والقاصي والداني.
ومعركة عبد الناصر ضد الرجعية والتبعية لا تزال معالمها واضحة في السياسة العربية، واعداء طريقه وفكره ما زالوا يخوضوا حرب مواجهة ضد مشروعه الإصلاحي التنويري، وما زالت قوى الظلام والتخلف والتجهيل والتكفير تصفي حساباتها مع مشروعه الداعي على الحرية والعدالة والكرامة، وتحارب لحظة التنوير الناصرية، وما زال الراحل يمثل كابوسًا مرعبًا للكثير ممن ناصبوه العداء في حياته، ومحاولات النيل منه لن تهدأ، والأطراف الرجعية والقوى الاستعمارية لا تزال تخشى فكره، كما كانت تخشى دوره.
عبد الناصر لا يموت ولن يموت، ما دمنا ننبض من قلبه ونتنفس من رئته ونحيا من روحه، وتلهج السنتنا بذكر اسمه الوضاء والرنان كرنين الذهب. وإننا لا نتحدث عنه كذكرى من الماضي الجميل، وإنما كحاجة ماسة وضرورية لاستلهام أفكاره ومواقفه وطروحاته وخطاباته القومية لمواجهة التحديات الراهنة وخيارات المستقبل.
وما اختم به هذا المقطع من قصيدة نزار قباني في رثاء عبد الناصر، حيث يقول:
في أي عصر عشتم؟
في عصر أي ثائر؟
نجيبهم: في عصر عبد الناصر
اللـه ما اروعها من شهادة
أن يوجد الإنسان
في زمان عبد الناصر!