أبو عرب ما زال يسكن صفورية التي تسكنه ابدا، سكنها وعاشها طفلا، عشق هواءَها، ماءَها، ترابها، بنيانَها، ناسَها، وكلَّ ما عليها من حياة، سكنته ولم تبرحه، برهةً شاردةٌ، ولا غفوةٌ ناعمة، هو يَقِظٌ كالغزال، يقظته دومًا حاضرة لا تغيب، تحاصر النسيان، وتحرسُ الذاكرة.
ما زال ابو عرب هناك، يأتينا بصفورية الى هنا، ويأتيها ببسمات أطفالها الآملة بفرحة العيد، يأتي حاراتها، رحاب الدار، يراوحها جيئةً وعودة، قافزًا بين الأزمان، وحدودِ المكان، وقاهرًا النكبةً وجراح المرحلة. أمين محمد علي يُخفي بريقَ دمعته، ويُبدي بسمته الساخرة المُنبئة بغدٍ أفضل، تجده دوما متوقدا، لا يعرف السكينةَ والهدوء، حاضرا لا ينام، وتخالُه غافيا على وسادة غائرة في حضن صفورية، ينهضُ من هذا الغياب الآني ليخترقَ حضورَه الرابض على بيادر البلد، وليعودَ شَغِفًا ا الى رحاب الصبا، ثم يعودُ الى حاضرِه يلامسُ أكوازَ الصبرِ والرمان، ويمازحُ صورتَه المنعكسة عن صفاءِ القسطل، ثُمَّ يعلو اطلالَ القلعةِ، يجمعُ الترابَ الزكي من البساتين، يُعلبُّه مِسكًا هديةً لأهلها الناطرين خلف الوطن..
كهولةُ أمين تجاورها طفولة أبي عرب، تتداخل دقائقُ الحالتين لترسمه، لترسمَ الوطنَ الذي عاشه فعلا، ولم يُغادره ابدا، بل بقي حاصرًا حراكَه في حدود الناصرة وصفورية، الجليلتين، حدودِه الوطن، فلسطين، بقي شامخا في مدينته الباقية، مدينتِه الحبيبة، في الناصرة، فهي الحضنُ والحصنُ والحفظُ والعيشُ الكريم، عَشِقَ سوقَها الذي لم يُفارقه، وخَدَمَ أهلها الطيِّبين، وأعطى جُلَّ جُهدِه لِصونِ وحدتِها، ونهجِها الكفاحي بقيادة رفيق دربه القائد الوطني الراحل، الخالد توفيق زياد، رئيس بلدية الناصرة، ومنها رَسَمَ حُلمَهُ عامرا بالعودةِ الواعدة، ومن أُفقها نسج أملا صابرا، صامدا بلهفةِ العودة.