تعود بي الذاكرة، ويحملني الحنين على جناحين من زنبق ورياحين، بعبق الميرميّة والزعتر والياسمين، إلى السنوات الأولى من ستينيّات القرن العشرين. عندما كنّا في الصف الثاني الإبتدائي في المدرسة.
كنّا صغارا، لكننا كنّا شديدي الإلتزام بالدراسة وبالمدرسة وبتعليمات وتوجيهات أساتذتنا ومعلّمينا، كنّا نعشق كل شيء في المدرسة، وكنّا نرى أساتذتنا "عمالقة"، محترمون مبجّلون إلى حدّ القداسة.
كان المدير والأساتذة يطلبون منّا أن نحضر معنا، كلّ واحد منّا، قرشا أردنيا، صباح يوم السبت، صباح يوم بداية الأسبوع، ويقولون لنا إن هذا القرش هو:
- "تبرّع" منّا لثورة الجزائر ولشعب الجزائر.
وكنّا صباح كلّ يوم نقف في طابور الصباح، في مسارب متوازية حسب الصف، الصف الأول، الصف التاني، الصف الثالث، ...، وهكذا. وننشد النشيد الوطني الأردني حينذاك، السلام الملكي الأردني، كون الضفة الغربية كانت جزءا من المملكة الاردنية الهاشمية:
- "دُمت يا شبل الحسين قائد الجيش الأبيّ، وارث النهضتين حسن جيش عربي". ...
وبعده مباشرة ومتلازما نشدو بكلمات النشيد الوطني الجزائري،"تحيا الجزائر":
- "قسما بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات والبنود اللامعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات، نحن ثُرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر فاشهدوا .. فاشهدوا .. فاشهدوا" ...
كانت حناجرنا الصغيرة تهتزّ ونحن نهتف بصوتٍ عالٍ فاشهدوا .. فاشهدوا، وتهتز مع الكلمات واللحن والحماس والعزة والكرامة كافة عضلات أجسامنا الفتيّة الغضّة، فترانا وكأننا نودّ أن نحلّق بجناحين صغيرين نحمل معنا تحيّات جبال النار إلى جبال أوراس الشامخة، التي احتضنت ثوّار الجزائر فوق الأرض واحتضت مليونا ونصف المليون من رفات شهداء أبنائها البررة تحت ثراها.
نعود بعبق نسمات كفاح جميلة بوحيرد":
- "الاسم جميلة بوحيرد رقم الزنزانة تسعونا بالسجن الحربي بوهران والعمر إثنان وعشرونا".
نتدثّر بها وننثرها في "قرية البروة" على سفوح جبال الكرمل، ليلتقطها الشاب محمود درويش ويزرعها برعما يتفتق عن "بركان":
- "سجّل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون الف وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف، فهل تغضب؟"
وبعد سنوات كتب محمود درويش "وثيقة إعلان الإستقلال"، التي تلاها المرحوم أبو عمّار في إجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر العاصمة عام 1988، حيث جاء فيها:
- " ... فإن المجلس الوطني يُعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين فوق ارضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف ...".
ليست مصادفة أن يُعلن عن "إستقلال فلسطين" من الجزائر، لكنها حتميّة تاريخيّة بتعانق ثورتين شامختين مجيدتين، صبغتا، إلى جانب الثورة الفيتناميّة، ثورة "هو شي منه" والجنرال جياب، وجه التاريخ بالنور والعزّ والفخار في القرن العشرين، وتركت بصماتها وآثارها للأجيال القادمة نبراسا يُحتذى في مقاومة الإستعمار والإحتلال الأجنبي.
دغدغ المشاعر والعواطف وحبّ الجزائر المزروع والمدفون في كياننا منذ نعومة أظفارنا، منذ أن كنا نلتهم كتب التاريخ بنهم وعشق، يخرج من بين دفّاتها طلّة القائد الشاب الإسلامي الفذ طارق بن زياد. ولد وترعرع في جبال أطلس الشامخة وإشتم نسيمها النقي العليل.
زحف بجيشه المظفّر من شمال إفريقيا، وإخترق البحر الأبيض المتوسط من طنجة إلى جنوب إسبانيا إلى الأندلس، من المضيق الذي يحمل إسمه حتى يومنا هذا، إسما دائما خالدا سرمديّا، "مضيق جبل طارق".
وعندما أصبح على الضفة الشمالية من البحر، أمر جنوده بإحراق السفن ووقف فيهم خطيبا ومحفّزا:
- "البحر من ورائكم والعدو امامكم وليس لكم والله إلا الصبر والنصر".
وإنتصر طارق بن زياد وجيشه، وأقام العرب المسلمون حضارة مزدهرة ومنارة علم في الأندلس، إستمرّت شعلتها متّقدة تنثر إشعاعاتها على مدى ثمانية قرون على كامل أوروبا السابحة الساهمة في عتمة وظلام ديجور العصور الوسطى.
نفض بعضا من الغبار عن الذاكرة "المدبوزة" بحب الجزائر، فيديو وصلني على الواتس آب يحتوي على مقابلات مع شباب، أناس، من شوارع العاصمة الجزائرية، مواطنين جزائريين، بصورة عشوائية تلقائية حرّة دون ترتيب مسبق.
المذيع أو الصحفي حامل الميكروفون في يده يسأل سؤالا واحدا، واضحا صريحا:
- "لو لم تكن جزائريّا ماذا وددّت أن تكون، من أي جنسية؟؟
ويأتي الجواب من الشباب، من كل المستطلعة آراءهم، دون إستثناء، وبالإجماع:
- "لو لم أكن جزائريا لوددت أن أكون فلسطينيّا، بالتأكيد".
تناغم الروح الجزائريّة مع الروح الفلسطينية، تناغم الكفاح والثوّار، عبد القادر الجزائري مع عبد القادر الحسيني، جميلة بوحيرد مع دلال المغربي وثائر حمّاد ومهنّد الحلبي واشرف نعالوه وفارس عودة وعمر أبو ليلى، بهي الطلّة والطلعة دائما.
الرئيس هوّاري بومدين قال يوما:
- "أنا مع فلسطين ظالمة أو مظلومة".
ونحن ما زلنا ننشد ونُردّد منذ صغرنا:
- "وعقدنا العزم فلتحيا الجزائر فأشهدوا .. فأشهدوا .. فاشهدوا" ..