"ماذا لو" عنوان للمجموعة القصصية التي كتبها وأصدرها بهذا الكتاب القاص سمير أحمد الشريف معرفا عليها على الغلاف بتعريف "قصص قصيرة جدا"، والكتاب الصادر عن دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع على مساحة 132 صفحة من القطع المتوسط وبدعم من وزارة الثقافة الأردنية، ومئة وثلاثون قصة قصيرة تراوحت بين عدة كلمات وعدة أسطر، ولوحة غلاف عبارة عن طريق طويلة طغى عليها اللون البني في الأعلى والأرض المتمازجة باللون الأبيض بدون وضوح للنهاية حتى تتناسب مع العنوان الذي حمل صيغة السؤال، واعتمد فيها فن القصة القصيرة جدا وهو فن سردي يعتبر حديثا وغربي المصدر حيث تشير المصادر التي اهتمت بالكتابة والبحث عن نشأة هذا الفن السردي إلى انه أتى من الغرب وأول من كتبه "أرنست همنغواي" بقصة من ستة كلمات عام 1925م وهناك دراسة بحثية كاملة في فن القصة القصيرة كتبتها الباحثة منيرة جميل حرب ونشرت في مجلة اوراق ثقافية العدد السابع في ربيع 2020م وهي دراسة مهمة لمن يرغب بالاطلاع على هذا الفن القصصي وتاريخه ونشأته، بينما أشار بعض الباحثين أن هذا الأسلوب الجديد في القصة له جذور في الأدب العربي من خلال الموروث من الطرائف والحكم والأمثال.
ومن المهم الإشارة الى ان القصة القصيرة جدا تعتمد على قصر السرد والتكثيف اللغوي والاعتماد على الايحاء بفكرة قصصية مكثفة وتختلف عن خصائص بناء القصة، فالاختزال هنا مع التكثيف اللغوي ووحدة الفكرة والموضوع والإعتماد على الايحاء هو ما يمنح القصة القصيرة جدا مزايا هذا التصنيف الأدبي، فهي أشبه بالوجبة السريعة ولكن مع فوائد عديدة، وعند النقاد أخذ هذا الجنس الأدبي أسماء متعددة وإن كان التوجه لدى الغالبية لتسميته "قصة قصيرة جدا" فمزاياه تختلف عن الومضات والخواطر والإشراقات، وفي نفس الوقت واجه هذا الفن القصصي الحداثي وقفة مضادة من معظم النقاد، كما حصل في التحديث بالشعر من شعر البحور مرورا بشعر التفعيلة فالقصيدة النثرية فالنثيرة الشعرية الحداثية، وأنا شخصيا ما زلت أكثر ميلا للقصة حيث أرى فيها مجال للدراسة والبحث أكثر من القصة القصيرة جدا والتي تولد منها القصة القصيرة جدا جدا، وإن كنت لست ضد الأصناف الأدبية الجديدة التي يمكن أن تفرض نفسها أو تندثر، وفي نفس الوقت وجد هذا الفن الأدبي الجديد من تشجع له وكتب عنه دراسات نقدية تستحق القراءة.
وهذه المقدمة ضرورية كي نستطيع التحليق في مجموعة "ماذا لو؟!" للكاتب سمير الشريف ومعرفة الآفاق التي حلق بها وكتب عنها باختصار وتكثيف وأحيانا بشكل يقارب الحكمة وأحيانا يقارب المثل، إضافة لفلسفة فكرية بعبارات مكثفة، وكون الكتاب يحتوي على 130 نص فقد أشرت إلى نماذج من الكتاب فمن الصعب الحديث عن كل النصوص، واعتمدت في ذلك على التوجهات التي ركزت عليها روح الكاتب، علما أن هناك توجهات مختلفة أخرى أيضا في الكتاب، ومن هذه التوجهات ركزت على اهتمام الكاتب بشكل خاص بالوطن وتلاطم الحياة.
الوطن: القاص اتجه في مجموعته القصصية لمعالجة العديد من القضايا والتركيز عليها، وهذا نراه من القصة الأولى "حكاية" والتي عالج بها ظاهرة لمسناها في الإنتفاضة الأولى في فلسطين وبشكل أقل بالانتفاضة الثانية وهي مقتل بعض الاشخاص تحت تهمة العمالة، وليس كل من قتلوا عملاء والموضوع طويل للحديث عنه، فقد سقط ضحايا تحت بند هذه التهمة وهم منها براء، وفي نصه "موضة" أشار الى زوجة الرئيس التي عرجت على باريس بعد المؤتمر الوطني لترى آخر صرعات الموضة، في إشارة واضحة لسلوك القادة وزوجاتهم في ظل أزمات الوطن، ونرى مشكلات الوطن في قصة "تفجير" والمرتزقة الذين يقاتلون ضد الوطن في إشارة لما عرف بالربيع العربي ولم يكن الا وبالا على العرب، ونجد الاشارة نفسها للمرتزقة في نص "مظلمة" ورصاصة القناص، وفي نصه "أطلال" يشير للأطفال الذين لا يجدون ما يلعبون به في ظل الموت سوى بقايا القذائف التي يصنعون منها تمثال، فهل اراد القاص أن يشير أن الكل سيفنى ولا تبقى إلا التماثيل؟، وفي قصة "فضاء" كانت الحكمة على لسان الجد المركون والمتروك بقوله: "يشغلكم الخارج ونحن نضيع في هذا العراء؟" فهذه بعض من مشكلات الوطن والمعاناة، وتتجلى الرمزية في قصة "الصورة" حيث يتحول الشهداء إلى صور مسجونة في إطار الصور، وهي فكرة رمزية مهمة فالشهداء الذين مضوا ما زالت أرواحهم تبحث عن مأوى ويتألمون على ما يرون ما آلت اليه القضية الوطنية، وهذا تجلى أيضا في قصة المناضل الذي أصبح بائع خضار على الرصيف في قصة "ترتيب"، وبأشكال أخرى في قصتي "ليل" و"وداع"، وفي نصه "شوق" طرح الوطن من خلال نص رمزي يحمل التساؤل ويقول فيه حرفيا: "هل اشتاق المسير للخطى أم اشتاقت الخطى إلى الطريق؟"، بينما في نصه "أنين" لجأ للرمزية المغرقة بالتعبير عن الوطن وعلاقة الياسمينة بالعاشق وفي نص "غياب" كانت اللوحة الفنية والفنان يعبرون عن فكرة البحث عن وطن بعبارة في النص تقول: "جلس ينتظر الغائب الذي عبر اللوحة بحثا عن وطن".
وبتعابير عديدة ونصوص متدفقة يواصل الكاتب التعبير عن الوطن بأشكال مختلفة وبرز هذا في نص "خيبة" حين: "غص تمثال الشهيد بدمعة، وهو يحصي العابرين الذين لم يطرح أحد منهم عليه السلام"، فكانت هذه الخيبة تعبر عن الواقع الحالي الذي يعيشه الوطن سواء من خلال الشهداء و معاناة الأسرى والمواطن كما في نصوص "أوراق" و"صهيل" و "صرخة" بينما في نص"تصويب" لجأ للرمزية في الحديث عن الوطن كما لجأ اليها لكن مع رمزية الاسماء في نصه "للبيع" حيث قال: "بداعي الاغتراب، وحدة سكنية للبيع في مخيم العودة، قرب سوبر ماركت التحرير، على شارع النصر...الخ"، فهذا النص عبر برمزية وسخرية عن واقع التناقض بين الواقع والحلم كما في نص "تنزيلات" ايضا و"أدوار" ونصوص "كؤوس" و"المهرج" و"تلال" و"تمثيل"، كما في نص "محسن" أيضا، كما أشار الى دور الاجهزة الأمنية في نصه "وجبة" و"فوران" وإلى لصوص الوطن في نص "تساؤل" وإلى جبن القادة الذين يحكمون الوطن في نص "مباغتة" وفي نص "صُدفة" وفي "ملل". وأختم الحديث عن الوطن في نصوص سمير الشريف بنص "وقوف" حيث يهمس: "بخطوات متعبة وقف ينتظر انبثاق الحنين نبعا تفجر بين صخور وطن غاب في البعيد".
تلاطم الحياة: في نصه "موج" بحث في تلاطم الحياة كما الموج ورغبة الشخص في كتابة تفاصيل رحلته، واللافت للنظر عبارته الأخيرة "وجد البلخي يمد له يدا تطبق على كتاب" والبلخي في معجم لسان العرب هو من "مصدر الأَبْلَخ وهو العظيم في نفسه الجَريء على ما أَتى من الفجور"، وفي نصه "ساق" كان الحديث يدور حول عبارة "هل تولد الحياة فينا من جديد" وهو يدور حول من رحلوا والحياة التي نحياها، وهذا الموضوع كان مجال قصة "سقف البيت" وأيضا نص "مدفن" حيث كانت الفوارق الاجتماعية في الحياة وتساوت الجثث بالموت، وبحث في الحياة والفقر والواقع الاجتماعي في قصته "يد الماضي" وفي قصته "صفير" وفي قصته "زيارة" وبرزت المعاناة الاجتماعية في قصة "أرجوحة" وفي نص "حياة"، بينما في قصة "غروب" كانت المعاناة من امرأة ثرية وليس الفقراء فقط، فالكل يعاني حين يرحل الأعزاء، بينما في قصته "مداهمة" انتقل لمعاناة الفقير الذي تتم مصادرة بضاعته التي يبيعها على الرصيف لتحصيل بعض من المال لإطعام أسرته، فوضعنا القاص بين صورتين هما: معاناة الثرية ومعاناة الفقير، والمعاناة للمواطن تتكرر في الكثير من القصص منها "كساد" و"سلام" و"تلويحات" و"شراكة" و"تعب" و"روائح" و"صدى" و"متى"، وتحدث عن الاصرار بنصه "قرار" بالقول: "لا أبيع حنجرتي"، وعن النفاق في نصه "مزمور" و "نتيجة" وعن "الفقر" في نص "تَرِكة" وفي نص "غفوة" وعن فقدان الضمير في نص "ضمير" وفي نص "طباع" وفي نص "دهشة"، بينما يتحدث عن تساؤلات الانسان/ المواطن في نصه "هل؟ من خلال عبارة صيغت على شكل سؤال بالنص بالقول: "هل خلقت لأنحني أم أنحني لأعيش؟".
معاناة المواطن تستمر وتلاطم الحياة لا يتوقف في نصوص سمير الشريف بنصوص مباشرة كما في نص "خريطة" حيث قال: "على قلق تنام المدينة التي تركت أطفالها على إشارات المرور"، وكذلك في نص "لافتة" وأخرى رمزية كما في نص "غابة" حيث: "استشاط التاريخ غضبا، حمل الأقلام، وأعادها لأشجار الغابة"، والفساد الذي يستشري كما نصه "عدالة" فمن يبحث عن ادانة المتهمين يقتل في ظرف غامض، واستغلال المواطن والكذب عليه في نص "بدل بنزين" والشرخ في المجتمع بنص "دهشة" وكذلك في نص "ضُباح" حيث الفشل بالحصول على وظيفة "وملأ سمعه ضباح الثعالب"، وأيضا في نص "عيون" حيث يبكي السجين لانتهاء محكوميته وقذفه للحرية والمعاناة، بينما في صورة أخرى مقابلة نجد في نص "أبو نهب" كيف تكون المناصب والأموال للصوص الوطن وكذلك في نص "نقاش"، ومقابلها نرى النفاق في قصة "سنابل" و"لمسات" و"مضمضة" و"مشرف"، واللصوصية في "منبر" و"تعويض" و"قص ولصق" ومقابلها الحلم بالغد في نص "عتمة" و"فلاة" والقرف في نص "براكية" ونص "مزاد" والألم في نص "طفولة" والى الفساد في نصه "فسادستان".
وهكذا بعد انهاء هذه الجولة في الكتاب واستخدام غالبية نماذج القصص القصيرة جدا، حيث لم أشر الى حوالي خمس وعشرين قصة كونها تحمل نفس الافكار بشكل وآخر، نرى أن فن القصة القصيرة جدا هو قصة جرى تكثيفها واختزالها لغويا لكي يوصل الكاتب ما يدور بذهنه بما قل ودل، فجال في مشكلات الوطن ومعاناة المواطن وهو يواجه تلاطم الحياة، وقد نختلف أو نتفق على هذا الصنف الأدبي، لكن بالتأكيد مهما كان الخلاف سنجد فيه جمالية بشكل أو آخر، لكن بالتأكيد أن ليس كل من كتب تحت عنوان القصة القصيرة جدا قد نجح بذلك، فالبعض من يتمكن فعلا من اثارة الدهشة في روح المتلقي، والبعض لا يثيرها ولا يثير التساؤل في روح القارئ، وأعتقد بعد قرائتي المتأملة لهذه المجموعة أن الكاتب سمير الشريف قد تمكن من اثارة الدهشة في روحي بغالبية النصوص وقد نجح باختيار العناوين التي كانت تلخص فكرة النصوص، وقد نجح بإيصال رسائله أيضا مباشرة أو برمزية غير مغرقة عن معاناة الوطن والمواطن، وأختم المقال بنص "سؤال" والذي يثير دهشة المتلقي بالقول: "ماذا أصاب المدينة التي يفتش الحائر فيها عن حيرته"، وهذا السؤال كان يجول في ذهني منذ سنوات طويلة، فهجرت المدينة للقرية والريف لعلي أجد الجواب.