معروف عبر التّاريخ أنّ العلاقات بين الدّول تقوم على المصالح، فأمريكا ترى أنّ مصلحتها بعد الحرب الكونيّة الثّانية تكمن بهيمنتها على اقتصاديّات العالم، وتجييرها لمصالحها، وما ترتّب على ذلك من بناء قوّة عسكريّة هائلة لحماية هذه المصالح، آخذة بعين الإعتبار هيمنتها على أوروبا، والتي أحكمت كامل سيطرتها عليها خصوصا بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي ومجموعة الدّول الإشتراكيّة في بدايات تسعينات القرن الفارط، تماما مثلما أحكمت سيطرتها على العالم العربيّ بعد انتهاء الإستعمار البريطانيّ والفرنسيّ في خمسينات وستينات القرن العشرين، فسيطرت على البترول.
وقد أدركت الصّين دور العامل الإقتصادي في انهيار الاتّحاد السوفييتي ومجموعة الدّول الإشتراكيّة، فتحوّلت إلى النّظام الرّاسماليّ والسّوق المفتوحة، وشرعت ببناء اقتصادها بسرعة صاروخيّة وبهدوء تامّ، حتّى صارت تنافس للوصول إلى قمّة الإقتصاد العالميّ الأوّل، وهذا ما تعتبره أمريكا تهديدا خطيرا لها. وبما أنّ أمريكا بنت سياساتها علىّ القوّة، ولضمان سيطرتها الكاملة فقد أسّست حلف "النّاتو"، وأقامت في دوله الأوروبّيّة قواعدها العسكريّة، ونصبت فيها أسلحتها النّوويّة، لمواجهة المعسكر الإشتراكيّ، وما عرف قبل انهيار هذا المعسكر بالحرب الباردة، إلا أنّها استمرّت بدعم وتوسيع هذا الحلف، لمواجهة روسيا ومن ورائها الصّين، ورغم البعد الذي يزيد عن عشرين ألف كيلومتر بين روسيا وأمريكا، إلا أنّ أمريكا أبقت على مخاوفها من روسيا ومن خلفها الصّين، ووصلت أطماعها إلى محاول ضمّ أوكرانيا لحلف النّاتو، لتصبح قوّات هذا الحلف على مشارف موسكو، وهذا ما اعتبرته روسيا تهديدا لأمنها القوميّ، ولهذا قامت بالهجوم على هذا البلد.
وبالتّأكيد فإن القيادة الأوكرانيّة قد أخطأت بتحالفها مع أمريكا ودول أوروبّا الغربيّة، ومحاولتها الإنضمام لحلف النّاتو، دون الأخذ بعين الإعتبار مصالح جارتيها "روسيا والصّين"، مع أنّها كانت جزءا من الاتّحاد السّوفييتي قبل انهياره. وإذا كانت أهداف أمريكا في الصّراع مع روسيا والصّين هي الحفاظ على هيمنتها الإقتصاديّة، واستعملت بذلك طاحونتها الإعلاميّة الهائلة لشيطنة الرّئيس الرّوسي بوتين، إلا أنّ ذلك الخداع لم ينطلِ على القيادة الرّوسيّة التي نفذ صبرها، ودفعها إلى الهجوم على أوكرانيا، ولم تدرك القيادة الأوكرانيّة لعبة الكبار، باعتمادها على أمريكا، فلا أمريكا ولا روسيا ولا غيرها من الدّول النّوويّة مستعد لخوض حرب نوويّة، لأنّه يدرك تماما أنّه سيكون قاتلا وقتيلا في الوقت نفسه، ومع ذلك فإنّ القيادة الرّوسيّة وضعت صواريخها النّوويّة في حالة تأهّب قصوى، كرسالة ردع لأمريكا وحليفتيها النّوويّتين بريطانيا وفرنسا.
ويجب التّأكيد هنا أن لا أحد يؤيّد الحروب، ولا أحد يؤيّد احتلال أوكرانيا، مع أنّ أمريكا وحلفاءها بأطماعهم الإمبرياليّة يتحمّلّون مسؤوليّة اندلاع هذه الحرب، والسّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل عدم انضمام أوكرانيا لحلف النّاتو يعتبر تهديدا للأمن القوميّ الأمريكيّ، أو لحلفائها الأوروبّيّين، أم انضمامها لهذا الحلف يشكّل تهديدا للأمن الرّوسيّ؟
وبما أنّ أمريكا قد جُنّ جنونها، واستعملت طاحونتها الإعلاميّة الهائلة لتضليل الشّعوب والرّأي العامّ العالميّ، وتباكيها هي وحلفاؤها على حقوق الإنسان! والقانون الدّوليّ، يعبّر عن حقيتهم، أم هو تضليل للشّعوب؟ وأين حقوق الإنسان التي يتباكون عليها في فلسطين، سوريّا، العراق، أفغانستان، إيران، ليبيا، اليمن وغيرها؟ ومن خوّلها لتكون شرطيّ العالم ولتفرض "عقوبات" كما تشاء على دول وشعوب؟ وبأيّ حقّ تحارب اقتصاديّات العالم؟ وإذا كانوا ضدّ الاحتلال العسكريّ الذي نرفضه جملة وتفصيلا، ولا نتمنّاه لأيّ شعب ولأيّ دولة، فلماذا يدعمون اسرائيل ويوفّرون لها الحماية لتستمرّ في احتلالها للأراضي العربيّة؟
ويلاحظ أنّ القيادة الرّوسيّة التي لم يتركوا لها خيارات سوى الحرب لإستنزافها، قد فهمت عقليّتهم جيّدا واختارت المواجهة، حتّى أنّها طالبت على لسان وزير خارجيّتها بسحب الأسلحة النّوويّة الأمريكيّة من قواعدها في أوروبا. إلّا أن الصين التي تقف قلبا وقالبا خلف روسيا اتّخذت موقف المراقبة بصمت، لأنّها تدرك أنّها الرّابح المؤكّد من هذا الصّراع؛ لتُتوّج على قمّة الهرم الإقتصادي العالميّ، وقد تستغلّ الصّراع لاسترجاع تايوان؛ لتعود إلى وطنها الأمّ، في حين سيكون الخاسر الأوّل من هذه الحرب هو أمريكا بغبائها السّياسيّ وأطماعها الإمبرياليّة، لكنّها لن تتوقّف عن أطماعها من خلال حربها المستمرّة في المجالات الإقتصاديّة والتّكنولوجيّة التي ستؤثّر على الإقتصاد العالميّ برمّته.
الموقف الإسرائيليّ:
ويلاحظ بأنّ اسرائيل التي يجيد قادتها فنون إدارة الصّراعات، ورغم تبعيّتها المطلقة لأمريكا، ورغم أنّ الرّئيس الأوكراني يهوديّ يحمل الجنسيّة الإسرائيليّة، إلّا تتعامل بذكاء مع هذا الصّراع، وتحرص أن لا تزجّ بنفسها فيه بشكل مباشر حفاظا على مصالحها، وعلى علاقاتها بروسيا، خصوصا فيما يتعلّق بالتّنسيق الرّوسي الإسرائيليّ في بسوريّا.
موقف بعض المتأسلمين:
ومن اللافت موقف بعض قوى الإسلام السّياسيّ، فرغم كلّ الموبقات التي ارتكبتها ولا تزال أمريكا وحلفاؤها مثل بريطانيا وفرنسا بحق الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، إلا أنّهم ما زالوا ينحازون لأمريكا وحلفائها، حتّى أنّ كثيرين منهم كتبوا ولا زالوا يكتبون مهاجمين روسيا، مستذكرين حروبها على الشّيشان، ويعتبرون أنّ الحرب حرب دينيّة تستهدف الإسلام والمسلمين، ويتناسون أنّ روسيا وأوكرانيا المتحاربتين من أتباع الدّيانة المسيحيّة، وأنّ الحرب الكونيّة الثّانيّة التي حصدت أرواح سبعين مليون شخص كانت بين متحاربين من أتباع الدّيانة المسيحيّة، لأنّ الحرب لم تكن يوما حربا دينيّة، وإنّما حروب اقتصاديّة. وليتهم يعودون إلى التّاريخ، ليتعلّموا من المؤرّخين المسلمين كيف أدركوا حرب أوروبّا على المشرق العربيّ في نهاية القرن العاشر الميلاديّ، كانت حربا اقتصادية "لنهب خيرات الشّرق"، فأسموها حروب الفرنجة، وأنّ من سمّاها "الحروب الصّليبيّة" هم المورّخون الأوروبيّون، لأنّ ملوكهم وأمراءهم تحالفوا مع الكنيسة واستغلّوا العواطف الدّينيّة لرعاع شعوبهم ورفعوا الصّليب وشعار "تحرير القبر المقدّس" ليشاركوا في تلك الحروب، تماما مثلما يجري في عصرنا هذا استغلال العواطف الدّينيّة لرعاع المسلمين لتجنيدهم في حروب الإنابة، لتدمير أوطانهم وقتل وتشريد شعوبهم.