بين هواجس الأنثى الجندرية وهموم بناء الوجود، لعل ما يميز الفن التشكيلي هو قدرته على منح المشاهد، الرائي إليه وإلى قطعه الشعور بالإحساس الحقيقي بما يريده الفن في عمله، لا سيما عندما يوفر العمل للمشاهد الناظر إليه أبعاد العمل المحسوسة الثلاثية في الطول والعرض والعمق، بما لا يترك له مجال في تأويل غير الذي قصده الفنان.
هذا هو حال جملة من أعمال الفنانة التشكيلية ابنة مدينة الطيبة، إرادة جمعة، خريجة كلية شنكار للهندسة، التصميم والفنون، وفنانة لا تصطنع الهم بل تترجمه فعلا وبلغته المحكية في أعمالها، كما في البناء المحسوس في قطعه تشكيلية مختلفة.
ففي ثلاثية "العيب والممنوع والحرام" تمد الفنانة على ثلاث لوحات كتبت بخط عربي مقروء بما يكفي لنقل الفكرة على صيغة وصايا "العائلة" أو المجتمع الذكوري للفتاة، الأنثى، دون الاضطرار مثلا للتقيد بنموذج من نماذج الخط العربي الرائعة، كالخط الديواني أو الرقعة أو الثلث أو حتى النسخ، فتأتي "الوصايا" أو لربما نقول التحذيرات، أو حتى أوامر النهي والمنع في ثلاث لوحات اختارت لها الفنانة عناوين "العيب والممنوع والحرام"، ربما للإيحاء في تدريج الوصايا "التحذيرات" التي تحكم وتعكس حال المرأة العربية أكثر من غيرها في داخل حياة الأسرة، حتى قبل الخروج للمجتمع.
هكذا تقرأ في لوحة عيب: "شو رح يقولوا الناس عنك، وطي صوتك، تلعبيش مع الأولاد العبي مع البنات.. عمرك 25 وبعدك مش خاطبك". وفي لوحة الممنوع تزداد نبرة المنع والوعيد؛ "فش إشي اسمه حب، اسكتي حتى لو كنت على حق تجادليش، تدافعيش عن نفسك". وفي لوحة الحرام مثلا تجد تصعيدا أكبر في الحلال والحرام، في المسموح والممنوع وحصار المرأة في الحيز الوحيد المتاح لها والذي لا ينبغي لها مغارته: "ارجعي عالمطبخ، شو بفهمك بالسياسة والرياضة، تقصيش شعرك زي الأولاد".
هذا الهاجس في القيود على المرأة ينعكس أكثر في لوحة منسوجة على قطعة قماش تحت اسم "الأنثى" بخلفية قماش ذهبية اللون، كتبت فيها كلمة الأنثى بأسلوب البيكسيلس للصور الرقمية، بتقنية "الكنفة" للتطريز العربي التقليدي، للإيحاء بانطلاق الأنثى مع العصر الجديد العصر الرقمي، وللتأكيد على دورها في الحيز العام وليس الخاص، ليس باعتبارها نصف المجتمع فقط بل هي المجتمع بأسره.
وتجد انعكاس لرفض القمع والاعتداءات والمفهوم الاستعلائي بحق المرأة في عملها الفني المسمى "مصيدة الأحلام" الذي يظهر فيه سرير مذهب لكن فراشة من الخيوط المعدنية في إشارة للقيود التي تكبل المرأة بعد أن تقع في مصيدة الزواج، إذا كان مفروضا عليها، حيث ينسف الواقع الذي تمثله السلاسل المعدنية، الأحلام الوردية التي قد تكون تم الترويج لها لتقبل الفتاة بالزوج الذي اختير لها.
لكن الهاجس الجندري ليس الوحيد الذي يطالعنا في أعمال الفنانة إرادة جمعة، بل تجدها تتجه لأعمال التشكيل بلوحات كبيرة "جدارية" من ثلاثة قطع كبيرة من الجص اختارت فيه نقوش النمنمات والهندسة الإسلامية البديعة لإعلان الهوية العربية الإسلامية، لكنها هوية تفقد ملامحها بفعل التعرية والطمس الذي تمثله التغييرات في الحياة والواقع الحديث، فترى حدود وخيوط الأشكال الهندسية البارزة "كمجسم" ومحسوسة في اللوحة الأولى تخف تدريجيا حتى تكاد تصل إلى رسم شبه ممحي المعالم.
ويُجسد عملها الفني "المكتوب يُقرأ من عنوانه"، قضايا وجودية، إذ تتناول جدارية الفنانة إرادة جمعة مفاهيم الهوية، الوطن، الحضور، والمحو من خلال استخدام الخط العربي. يتكون العمل التنصيبي (جدارية) من أنماطٍ هندسية مربعة قامت الفنانة بدمغها بقصارة على واجهة مبنى في شارع هرتسل - الذي يعتبر أول شارعٍ في تل أبيب. تتكون الزخارف الرباعية من أسماءِ 17 قريةٍ فلسطينيةٍ بُنيت على أنقاضها المدينة العبرية الأولى. بعد عام 1948، تم مسح القرى من الخريطة وطُرد سكانها. تقوم الفنانة بإعادة إحضارها في الحيز العام، باستخدام مواد خام تكون عادةً مغطاةً ومخفية عن الأنظار. تكشف القصارة المكشوفة نشاطًا قيد التنفيذ، أو سطحًا تآكل مع مرور الزمن، تاركًا بصماتٍ لا غير، ذاكرة خافتة.
وفي لوحات أخرى وعمل فني آخر تجد الفنانة تلجأ مرة أخرى للعرابسك والنمنمات الإسلامية لدفع المعتدي والتشفي به والدعاء عليه، بمقولات تضعها تحت اللوحة مأخوذة من العامية: "الله لا يقيمك"، و "حل عني". لكن الفنانة لا تتردد في أعمال "شاقة" في صنع كتلة إسمنتية حفرت عليها عبارة عدم وجود خيار آخر، لشرح والتعبير عن اضطرار الفلسطيني في البلاد للبناء حتى بدون ترخيص، لأنه لا يجد خيارا أخر لبناء مأوى ومسكن له ولأبنائه. الكتلة الباطونية المسلحة والحفر النافر منها يعكس الصمود من جهة والقسوة الاستبدادية من جهة أخرى في الحفر على نفس الكتلة عبارة "بناء ممنوع قيد الإنشاء 1985" تعبيرا عن سياسة الهدم التي تطارد المواطن الفلسطيني.
هذا هو جزء من العالم الفني التشكيلي للفنانة إرادة جمعة، يعكس هموم وصراع الفنانة بين هويتها النسوية إذا صح التعبير، أو ربما الجندرية في رفض التسلط، وبين هويتها الإسلامية الآخذة بالإندثار وإضاعة ملامحها الأصلية، كما في لوحات الهوية، وبين الهاجس الوجودي للمواطن العربي في إسرائيل، هاجسه بالحصول على ترخيص عله يبني بيتا بعيدا عن خطر الهدم والغرامات.
عن الفنانة التشكيلية إرادة جمعة
إرادة جمعة، فنانة تشكيلية من سكان مدينة الطيبة، حاصلة على اللقب الأول في الفنون متعددة المجالات عام 2018 من كلية شنكار، وعلى اللقب الثاني في الفنون من كلية بتسلئيل القدس عام 2021. مؤسسة ومديرة ستوديو آرتادا لتعليم الفنون التشكيلية للأطفال والأولاد من جيل ٤ سنوات فما فوق.
في إنتاجاتها الفنية تتعمّد إرادة التطرق إلى معضلات وقضايا اجتماعية من الممكن ان تواجهها في حياتها اليومية، كأي شخص آخر أو فتاة أخرى كونها امرأة عربية مسلمة تعيش وتتعايش وفق القوانين التي فرضتها علينا سلطة الاحتلال من ناحية والقوالب التي يصنعها لنا المجتمع من ناحية أخرى.
معارض تمت المشاركة بها؛
•كانون الثاني 2018 - معرض فني عن الدين والعادات والثقافة العربية، كلية شنكار.
•أبريل 2018 - "الوطن - Homeland" ، ستوكهولم، السويد.
•يوليو 2018 - "المعرض الختامي" كلية شنكار. (فازت بجائزة مارغريت وسيلفان آدامز للخريجين المتميزين في العام المذكور).
•سبتمبر 2018 - "ناجي العلي: الفن كرسالة سياسية" ، صالة "الحيّز البديل"، الطيبة.
•تشرين الأول 2018 - معرض "خط حد"، بيت ميخال، رحوفوت.
•نوفمبر 2018- "12plus 1" ، صالة العرض للفنون ، أم الفحم.
•أبريل ، 2019- "تعالي غدًا ، سأشرح لكِ"، صالة "الحيّز البديل" ، الطيبة.
•يوليو 2020- معرض "فضاءات مركبة"، صالة "الحيّز البديل", الطيبة.
•أغسطس 2020- معرض "لغة الأم"، بيت الفنانين- النقب، بئر السبع.
•يوليو 2021- معرض التخرج الختامي "المكتوب يُقرأ من عنوانه"، بتسلئيل.
لتفاصيل أوفى:
0524070547