يُقال إن الديمقراطية غرسة بطيئة النمو تتطلب تربة صالحة، فكثير من الفلسطينيين لا يزالون يرفضون الاعتراف بسوء حال المجتمع الفلسطيني، وبحاجة هذا المجتمع إلى إصلاح شامل بعيداً عن "التهويل" أو "التهوين" لما يعانيه من تردِ يرجع إلى أسباب متعددة، منها السياسي، ومنها الاقتصادي، ومنها الاجتماعي والثقافي.
لذلك، فإننا نعيش أزمة هوية، لا بل، حالة من الانفصام في شخصيتنا الجماعية والاجتماعية، فننادي - على سبيل المثال - بإجراء انتخابات محلية (بلديات)، ونمارس الأحاديّات الفكرية والاقصاء والتهميش ونحن نتحدث عن اجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، بمعنى أنه لا يمكننا أن نفاضل بين المفهومين إذا أردنا أن ننهض بالوطن، فالرهان الحقيقي يجب أن يكون على تداول السلطة في مؤسسات الوطن الأساسية، ودوريتها بمعنى (عدم الاحتكار السياسي) للتعبير الصادق عن مصالح المجتمع الفلسطيني في الحاضر والمستقبل، بعيداً عن الولاءات الفرعية على حساب الولاء للوطن، وصولاً إلى بناء الهياكل المؤسسية الرسمية في سياق عملية التغيير الجذري للبيئة المؤسسية المجتمعية التقليدية، لكن بات واضحاً أن البعض لم تعد تهمه الوحدة الوطنية والتئام الجرح النازف جراء الانقسام البغيض بقدر ما تهمه المصالح الفردية والفصائلية الخاصة التي تضمن له الاستمرار في السيطرة لتحقيق المزيد من الإثراء ضاربين عرض الحائط بالقضية الوطنية.
ولعلَّ واحدة من أكثر الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة الهند في تطبيق الديمقراطية منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين وسط انتشار واسع للأمية والفقر والانشقاقات، حيث نوقشت مجموعتان من العوامل من تاريخية ومؤسسية، حيث تقدمت الثقافة الهندية على العوامل التاريخية، ويذكر أحد كبار كتّاب الهند في قضايا التحضر "بادريناث شاتورفيدي" أن أحد مبادئ الفكر الهندي الذي ساد المجتمع هو أن جميع الأفكار تقريبية (نسبية) في علاقتها مع الحقيقة، وعليه، لا يوجد فكر يمثل الحقيقة كلها، وبالنتيجة استطاع الهنود تطوير موقف فكري تجاه الأفكار الأخرى على نحو مقبول جداً، وبرزت هذه الأفكار الثقافية وممارساتها بصورة جليّة في الفترة الكولونيالية، واحتلت مركزاً محورياً في مسيرة التحرر الهندية، إذ وفرت قدرة عالية على الاستيعاب والتكتل، وفي اتباع طريقة تؤكد على التوافق بدلاً من الانتصار، وهذه الأفكار الثقافية شكلت قيماً عالية للديمقراطية، حيث تجسدت مجموعة من العوامل المؤسسية في حزب المؤتمر الهندي ودوره في التطوير التدريجي الفعلي للمؤسسات الديمقراطية، وساعدت هذه السلوكية على بناء أرضية مؤاتية لقيادة الديمقراطية بعد أن حققت الهند استقلالها عام 1947.
وإن التاريخ القريب والبعيد حافل بالأمثلة الواضحة التي تؤكد أن التجرد من الذاتية، وكسر الحاجز النفسي، والانفتاح على الجميع هو خير وسيلة للعلاج، فالشراكة السياسية بمفهومها الواسع التي ليست محض تحالف مرحلي أو مجاملة أو فضاً للاشتباك، ولكنها اقتناع وقدرة على العيش المشترك، وتدعيم فرص نجاح هذا العيش المشترك، لتحقيق التضامن الحقيقي وتحرير الأرض والإنسان من الاحتلال الإسرائيلي والاستعمار الاستيطاني.
وفي الختام، فإن أولى خطوات الخروج من المأزق الفلسطيني أن تتسع العقول والصدور للاعتراف بالتقصير الذي طال، في ظل الفجوة المتسعة بين القول والفعل، واستمرار تآكل قدرات النظام السياسي الفلسطيني بفعل استمرار الجمود السياسي والخضوع المتعاظم للعامل الخارجي، وانتماء المؤسسات القائمة إلى نمط النظام القديم الذي تعطلت وظائفه وشاخت إلى حد بعيد.