تستمر الحرب الروسية على أوكرانيا لتشارف الشهرين منذ انطلاقها على عكس تكهنات المحللين العسكريين الأيام الأولى للغزو، حيث توقعت الغالبية ان تكون ' العملية العسكرية' التي أطلقها بوتن خاطفة وحاسمة في زمن اقصاه عشرة أيام لتتمكن من خلالها موسكو بسط سيطرتها على كييف ومن ثم إعلان سقوط زيلنسكي وقيام خريطة سياسية جديدة في أوكرانيا، ولكن يتضح ان المسار العسكري للحرب لايزال غامضا، ويقابله زحف اقتصادي على موسكو بجملة من العقوبات الاقتصادية القاسية على روسيا، وان كانت هذه الأخيرة تحاول التقليل من شأنها، في مشهد يشبه عزف الموسيقي اثناء غرق التايتانيك .
يحاول بوتن الالتفاف على عقوبات الغرب الشرسة من خلال فرض التعامل بالروبل مع الدول الغير صديقة لسداد فواتير الغاز، ليعلن أن خطة الغرب لتحطيمه باتت بالفشل، وهي محاولة أيضا لتوجيه ضربة للدولار الأمريكي الذي يأخذ قوته من بيع النفط والغاز، كما أنها إشارة لبادين أن حلفاء روسيا المصدرين للبترول والغاز قد يتوجهون الى التحرر من الدولار في تعاملاتهم النفطية واعتماد عملاتهم المحلية كبديل عن الأخضر الأمريكي، ولكن الخطة قد تبوء بالفشل خاصة وان الولايات المتحدة تسعى جاهدة لتقليص اعتماد أوروبا على الغاز الروسي الى غاية عدم الاعتماد عليه نهائيا، ويتضح هذا من خلال محاولة العمل على زيادة الإمدادات الامريكية من الغاز الى أوروبا، بالإضافة الى دعوة الجزائر ومصر وقطر وليبيا الى ضخ المزيد من الامدادات الغازية الى أوروبا، وحتى وان كانت الجزائر ومصر في صف المعسكر الروسي الا انهما مجبرتان على ضخ المزيد من الغاز وذلك في صفقة مع أمريكا تضمن أمنهما الغذائي.
وبالرغم من ان بوتن قلل من حجم التهويل الإعلامي الذي تقوده الولايات المتحدة وحلفائها حول العقوبات الاقتصادية وحجم ضررها، الا ان اغلاق العديد من الشركات العالمية فروعها في روسيا، خلق أزمة بطالة في بلد يعاني أصلا من انكماش اقتصادي جراء الجائحة، الامر الذي يجعل الجبهة الشبابية خزانا لثورة شعبية قد تشتعل في أي لحظة للتعبير عن سخطها من الأوضاع الاقتصادية التي تزداد سوءا مع تحول روسيا الى دولة معزولة شبيهة بكوريا الشمالية، ليس بإمكان شباباها استعمال منصات التواصل الاجتماعي بقرار من المحكمة.
هذا لا يعني أن بوتن هو الخاسر الوحيد في كل مايجري، الجميع يدفع الفاتورة بما فيهم أمريكا التي يفقد فيها بايدن يوما بعد يوم من شعبيته جراء التضخم و ارتفاع أسعار الوقود والذي لم يتجرعها الامريكيون على اعتبار ان الطبقة الفقيرة و المتوسطة في الولايات المتحدة لا تهتم لتحالفات بايدن الخارجية وموضوع الحرب في أوكرانيا بقدر ما تحتاج الى ان يحقق وعوده الانتخابية، كذلك الأمر بالنسبة للأوروبيين الذين استضافوا اللاجئين الاوكرانيين ليتفاجؤوا أن زيارة الضيوف قد تستمر لوقت طويل وتستنزف خزائن حكوماتهم، ناهيك عن تحذيرات وكالات الأمم المتحدة من أن العملية العسكرية الروسية قد تتسبب بأزمة غذاء "ستكون مأساوية للجميع، وتهدد بالدرجة الأولى الدول النامية التي ستزداد فيها رقعة الفقر والبطون الخاوية .
لقد فشل التهديد بالعقوبات في منع روسيا من غزو أوكرانيا، وفشل كذلك في انقاد العالم من انتكاسة اقتصادية جديدة ستعصف بحكومات وتفتح الباب أمام المزيد من الفقر والجوع الذي سيتحمله العالم الثالث البريء من عبث الناتو وروسيا، ويتضح جليا أن كل الأطراف خاسرة ومتورطة في مأزق كان بالإمكان تجنبه.
نحن الان أمام ‘’ جائحة اقتصادية عالمية’’ سببها تهور بوتين ورغبة امريكا في جره الى حرب كانت تظن انها لن تكتوي بنيرانها، هنا يصبح البحث عن حل وسط يرضي الجميع ضرورة قصوى قبل ان تتحول الحرب بالدبابات الى حرب نووية، خاصة عندما يصل بوتن الى مرحلة استعمال الكارت الأخير.