"إنَّ اقتتالنا على السَّماء يُفقِدُنا الأرض."
هذه المقولة لأنطون سعادة، مُؤسس "الحزب السّوري القومي الاشتراكي" في خمسينيات القرن الماضي، هي التي دفعت الروائية الفلسطينية سحر خليفة إلى كتابة هذه الرواية، ومن هذه المقولة استقت عنوانها "أرض وسماء."
أنطون سعادة؛ هذا الرَّجل الذي شبَّهه البعض بجيفارا من حيث روحِهِ الثورية وبطولتهِ في النضال من أجل شعبه ووطنه، وشبَّهه البعض بسقراط الذي اختار أن يتنازل عن الحياة كي لا يتنازل عن الحق والحقيقة... هذا الرجل كان مفكراً فذاً استطاع بمقدرته على التحليل أن يَستبصر ما ستؤول إليه أحوال العرب بعد سبعين عاماً، حيث قال قبل رحيله:
"في صراع الدين على السلطة، تخسرون المال والبنين وأنفسكم، ولا يَظلُّ لكم في هذا الوطن المُتَهتِّك إلا الشيطان وزبانيته."
هذا ما دفع سحر خليفة إلى الكتابة عن أنطون سعادة لتُنهي ثُلاثيتها التي كرَّستها للإجابة على التساؤلات التي شغلتها طوال حياتها ولا تزال:
1) لماذا هُزمنا؟
2) لماذا لا نزال نُهزَم؟
3) لماذا نَغرَق في العجز والضعف والمهانة أكثر وأكثر؟
والروائية الفلسطينية النابُلسية سحر خليفة تحاول أن تجيب على هذه التساؤلات من خلال الاستعراض الروائي لشخصيّات مَركزية في التاريخ العربي والفلسطيني كان من المفروض أن تنجح وتحقق النصر ولكنها فشلت ومُنِيَت بالهزيمة: عز الدين القسام في رواية "حبّي الأول"، وعبد القادر الحسيني في رواية "أصل وفصل"، وأنطون سعادة في هذه الرواية. وتربط الكاتبة بين هذه الشخصيات من خلال "أمين"، الشاعر الفلسطيني المُقاتل الذي حارب مع القسّام، وهُزم مع الحسني، والتحق بسعادة وظل سائراً على دربه حتى الرمق الأخير.
تقول خليفة:
"سعادة هو البطل الرئيس في روايتي. اخترتُ الكتابة عنه الآن، لأنّ فكره ونضاله هما الأفضل لهذا الوقت. الطائفية تحيط بنا اليوم في كل قُطر. انظُر الى العراق وسوريا ومصر ولبنان، وإلى كل بقعة في العالم العربي، ماذا ترى؟ أين هو الربيع العربي؟ لعنة الطائفية أصابته وجعلته خريفاً، بل شتاءً موغلاً في البرد والتصحُّر. وما لم نقاومها، كما فعل سعادة، فمصيرنا مُظلم شديد السَّواد، وهذا ما حذَّر منه سعادة، واستشهد أثناء مقاومته... لو أنّه لم يُهزَم، بل عاش ليحقق أحلامه بالدولة المدنية الحديثة، فهل كان لبنان كما هو الآن؟ هل كانت سوريا في هذا الدمار والرعب والعبثية؟ هل كنا أضعنا فلسطين؟ هل كنا خسرنا العراق؟ كل هذه الأسئلة تدور في ذهني وأنا أحاول البحث عن أجوبة مدفونة في التاريخ."
ولهذا الهدف عادت سحر خليفة إلى كتابات أنطون سعادة فقرأتها جميعاً وقرأت كل ما كُتِب عنه، وقضت عامين وهي تتجوَّل في الأماكن التي عاش فيها وتنقَّلَ بينها، وتتحدث مع مَن عرفوه وشاركوه نضاله وأفكاره.
إلا أنَّ هذه الرواية ليست سيرة تاريخية لأنطون سعادة بقدر ما هي رواية يحتل سعادة فضاءها الروائي ويقوم بدور المحور الذي تدور حوله الشخصيات الأخرى. والرواية تُراوِح بإتقان روائي رائع بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين فلسطين الضائعة ونابلس المُنتهَكة ولبنان الذي شهد انتصار الطائفية والرجعية الدينية على أنضج تجربة علمانية اشتراكية وطنية في التاريخ العربي.
لقد آن الأوان للقارئ العربي الحُر أن يكتشف أنطون سعادة؛ هذا المُفكر العربي الحُر والمُحارب البطولي الذي قال في اللحظات الأخيرة من حياته قبل أن يُخرجوه من زنزانته للإعدام رمياً بالرصاص:
"أنا لا يُهمِّني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعُدُّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون. كلنا نموت، ولكنْ قليلين منا يظفرون بشرف الموت من أجل النور والحرِّية. يا خَجَلَ هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مُغتربينا، من الأجانب. يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يَستسقي عُروقنا من جديد."
لقد كتبتُ عن سحر خليفة سابقاً وعبَّرتُ عن رأيي في أدبها وروائيتها. أما هنا فأكتفي بالقول: لو لم تؤلف سحر خليفة سوى هذه الرواية لكفاها ذلك شرفاً وفخراً وإسهاماً في الأدب العربي والعالمي. لقد تفوقَت خليفة على ذاتها في هذه الرواية.