يوم 29 مايو 2022 لم يكن يوما عابرا في تاريخ القدس، فهو بداية التّقسيم المكاني للمسجد الأقصى. صحيح أنّ المحتلّين عربدوا وطغوا وتجبّروا وضربوا واعتقلوا وعذّبوا وتفاخروا، وتنافست أحزابهم وحكومتهم ومعارضتهم على استباحة الدّم الفلسطيني وحرمات المسجد الأقصى، إلّا أنّهم كما قال درويش"عابرون في كلام عابر"، وما احتفالاتهم بما يسموّنه مسيرة الأعلام، بمناسبة "توحيد القدس" حسب التّقويم العبريّ، إلّا برهان جديد أنّ وجودهم قائم على القوّة المسلّحة، فكلّ مستوطن من غزاة القدس تمّ تجنيد رجل أمن لحمايته، مع أنّ المستوطنين أنفسهم يحملون السّلاح أيضا، ورغم ذلك فقد صاروا أضحوكة أمام أطفال ونساء وشيوخ وشباب القدس العزّل، الذين هم سادة مدينتهم الحقيقيّون.
لكن ما لا يمكن تجاهله أو القفز عنه هو البدء بالتّقسيم المكانيّ للمسجد الأقصى، الذي جرى تقسيمه زمانيّا منذ العام 2002، عندما سمحوا للمستوطنين بدخوله وتدنيسه تحت حماية قوى الأمن الإسرائيليّة بشكل يوميّ، فيوم أمس الأحد، دخل المسجد الأقصى ما يزيد على 2000 مستوطن، ورفعوا العلم الإسرائيلي فيه، وأدّوا صلوات تلموديّة وسجدوا داخل المسجد قرب باب السّلسلة، في المنطقة الواقعة بين مسجد الصّخرة المشرّفة والمسجد القبليّ. وهذا يعني أنّ حكومة الاحتلال قد فتحت الباب للمستوطنين بآداء صلواتهم التّلموديّة بشكل يوميّ، أي ترسيخ المكان كمكان عبادة لليهود، ولن يكون بعيدا ذلك العام الذي سيجري فيه هدم مسجد الصّخرة وبناء الهيكل المزعوم فيه. فالمسؤولون الإسرائيليّون يطبّقون مشروعهم التّوسّعي بدعم لا محدود من أمريكا وحلفائها، وتخاذل عربيّ رسميّ لم يعد خافيا على أحد، مع أنّ اسرائيل لا ترى العرب خارج حدود فلسطين، ولا تحسب لأيّ منهم أيّ حساب مهما كان منصبه عندما تتّخذ قراراتها الإستيطانيّة التّوسّعيّة. ولا يمكن تبرئة أصحاب "الجلالة والفخامة والسّموّ" من كنوز أمريكا واسرائيل الإستراتيجيّة في المنطقة من مسؤوليّة ما يجري في القدس وأقصاها خاصّة وفي فلسطين عامّة، فعندما تهافتوا على التّطبيع المجّانيّ العلنيّ والسّرّيّ مع دولة الاحتلال، زعموا أنّهم اتّخذوا قرارات سياديّة! وهم أوّل من يعلم أن لا سيادة لأيّ منهم على قصره أو على المليارات التي نهبها وأودعها في بنوك أجنبيّة، كما زعموا أنّ التّطبيع المجّانيّ "لمساعدة فلسطين وشعبها"!
ورغم أنّهم جنّدوا وسائل إعلامهم لتبييض صفحة الاحتلال وتشويه تاريخ فلسطين وشعبها، إلّا أنّ الاحتلال لم يحفظ لهم ماء وجوههم حتّى أمام شعوبهم؛ لأنّه لا يراهم أصلا، فمثلا الوزيرة الإسرائيليّة شاكيد التي تدعو إلى قتل العرب وصفت سماعها للأذان من المساجد بأنّه "نباح كلاب"! واستقبلت في الإمارات، وزارت مسجد الشّيخ زايد، لتقرأ الفاتحة على روحه بالعبريّة الفصحى! وعندما زار وزير إماراتي القدس، دعا أحد وزراء الحكومة الإسرائيليّة من أحزاب المتديّنين إلى عدم استقباله وعدم مصافحته قائلا: "هؤلاء حمير موسى يجب ركوبهم وعدم استقبالهم." وهل سمع "حمير موسى" هتافات حاملي الأعلام الإسرائيليّة" الموت للعرب" وهل سمعوا الهتافات المسيئة لخاتم النّبيّين؟
وإذا كانت إدارة الرّيس الأمريكي بايدن"العقلانيّة" ترسل مبعوثيها إلى دول عربيّة، كي تطبّع علانية مع دولة الاحتلال، فإنّ التّقسيم المكانيّ للمسجد الأقصى كما جرى في المسجد الإبراهيمي في الخليل، قد بدأ علنا وأمام الصّحافة، ووسط استنكار وشجب عربيّ رسميّ يدعو إلى التّقيّؤ، فهل تعي الشّعوب العربيّة والإسلاميّة أنّ التّفريط بالأقصى سيلحق به التّفريط بالكعبة المشرّفة وبالمسجد النبويّ الشّريف؟
والحديث يطول.