"رُبّ صدفة خيرٌ من ألف ميعاد"، كما تقول الحكمة. وهذا ما حصل معي بالضبط، بحذافيره وتفاصيله وملابساته ومصادفاته، حين زيارتي لوزارة الثقافة، خيمتنا الكبيرة، بحيرة بجعنا، مربط خيولنا، واحتنا الخضراء وارفة الظلال.
منذ مدّة طويلة لم أكن قد زرت وزارة الثقافة، أمس ظهرا شددت الرحال إلى مقصدي ومبتغاي ووجهتي، من أجل الالتقاء بالصديق الشاعر المدير العام عبد السلام العطاري. اسمه مصهور في بوتقة من ذهب تحوي العطر والسلام، كما قلت عنه يوما في سرد بديع تحت عنوان "اليساري المؤمن.
وهذا اليساري المؤمن، أي المزيج ما بين السلام والعطر يأبى إلا أن يكون مؤمنا، مؤمنا بربّه، مؤمنا بعمله وبالتزامه بما يقوم به. قال لي يوما وهو "يُجبّد" نفسه على كرسيه:
- أتدري، أتمنّى أن أكون موظّفا يوما.... يعني الدوام تمانية ساعات عمل "والسلام"،.... أنا أداوم صباحا ومساءا وليلا وأيّام العطل الاسبوعية وحتى أيام الأعياد الرسميّة!!!!.
وصلت مكتبه الواقع في الطابق الرابع منتصف النهار، كنت أعتقد جازما، وكعادته، بانه على وشك "حلّ" ربطة عنقه وخلع جاكيته، والانطلاق للوضوء والصلاة. ما أن دخلت عليه المكتب وحييته إلا ووقف وحيّاني وقال لي ضاحكا:
- "أعتذر منك فأنا مغادرلاجتماع خارج الوزارة. لكن "البيت بيتك"، أرجوك اجلس، وسأبقي المكتب مفتوحا". ثمّ نادى على شاب نحيف ظريف يلبس بدلة فاتحة، وقال له:
- - اجلس ودردش مع السفير ريثما أعود.
"حركة" في غاية اللطافة والقيافة واللباقة والكياسة وحسن الخلق.
ومع أني استحسنت الأمر إلا أنني اعتبرته من باب "المجاملة" اللطيفة ليس إلا، فالشاب صغير في السن، ولا أعرف اذا ما كان لدينا لغة مشتركة، موضوع مشترك نتحدّث فيه، أو قاسم مشترك نتقاسم ونتجاذب أطراف الحديث فيه. فأنا لست ضليعا في مواضيع النت والفيس بوك والانستغرام، حتى أنني لا أملك صفحة فيسبوك!!!!.
اذن والحالة هذه، هل نتجاور أو نتقابل ونحملق أحدنا في الآخر أو نستعمل لغة الاشارة "البانتوميما" للحديث والدردشة.
لكن، ودائما هناك ولكن كما يقول القول الاسباني الشهير، "راعني" ايجابا وسعادة وسرورا وحبورا حديث الشاب وثقافته ومعرفته ومعلوماته المتورّدة.
عرّف عن نفسه بأنه "رشيد عناية"، يا عناية الله، ما هذه الهديّة الثمينة القيّمة التي أهداني أياها عبدالسلام. رشيد من الرشد، من بلوغ سن الرشد، من الارشاد والمرشد.
خضنا في بحور متعدّدة خضنا غمار مياهها الهادئة والهادرة، تحدّثنا في الثقافة والتاريخ وعلم الاجتماع والعادات والتقاليد، وفي بعض الزوايا المخفية من التاريخ العربي والاسلامي.
شعلة في الذكاء رشيد، مخزنا للمعلومات، موسوعة، دارس وقارئ نهم، فاجأني في كل لحظة وفي كل موضوع.
من المواضيع الطريفة التي خضنا بها الخلافة الأمويّة وخاصة عهد معاوية ابن أبي سفيان. اتفقت أنا وهو على عدم محبتنا لنسل أبي سفيان وهند بنت عتبه، وأن ابو سفيان أسلم "بالمداهنة" وليس عن قناعة وتصميم. وهذا الحال ورّثه لمعاوية.
لديه معلومات طريفة ظريفة عن معاوية ابن ابي سفيان، وهو أنه كان سمينا جدّا، لانه كان لا يقفل فمه أبدا وانما يبقيه مفتوحا يلتهم كلّ ما لذ وطاب من أشهى الطعام.
دخل عليه يوما شخص يُدعى "الكلبي"، فسأله معاوية "متطففّلا": " كيف أمورك مع النساء؟؟!! فاجابه "والله ما اشتهيت شيئا إلا صنعته. وهذا الجواب استفزّ معاوية لغرض عنده وفي نفسه وفي ذاته. فأمر "ببهدلة" الرجل وقطع أي هبات أو مساعدات عنه. وبقي حاله على هذا الحال والموّال حتى انتبهت زوجته، فذهبت إلى زوجة معاوية تشكو من زوجها معها في اللحظات الحميمة، فاخبرت معاوية بذلك فانفرجت أساريره وأعاد المعونة والهبات للكلبي.
قلت لرشيد، في كتابي القصصي الثالث الذي صدر مؤخرا عن دار الرعاة وسيتم اطلاقه قريبا ان شاء الله في متحف محمود درويش في رام الله، توجد قصة طريفة ظريفة مشابهة من جنوب البرازيل، وفحواها أن رجل أعمال من أصل برتغالي، صاحب مصنع للأحذية وبلغ الثمانين من عمره، تعرّف على وأحب موظفة في مصنعه شقراء تبلغ من العمر ثلاثين عاما من أصول ألمانية. تزوّجها وجعلها أميرة مملكته وممتلكاته وثروته.
بعد عام حملها وبطنها يندفع أمامها ألى المستشفى الكبير في مدينة بورتو أليغري، استقبله طبيب مختص في قسم الطوارئ، أدخل زوجته قسم الولادة وخرج بعد ساعتين يزفّ لغونزالو رجل الأعمال قدوم طفل جميل بصحة جيدة، وسأل غونزالو مداعبا: "هل الطفل فعلا منك؟؟ فاجابه غونزالو طبعا يا دكتور أرجوك فالموتور ما زال يعمل بقوّة.
بعد عام عاد غونزالو بزوجته الشقراء وبطنها أكبر من العام الماضي، فاستقبله في المستشفى نفس الطيب المختص الظريف. ادخلها غرفة الولادة وخرج ضاحكا بعد ساعتين وخاطب غونزالو قائلا: "لقد اذهلتني طفل آخر هل هو طفلك فعلا. فردّ عليه غونزالو مزهوّا: "طبعا يا دكتور فالموتور ما زال يعمل بقوّة.
فرد عليه الطبيب ببسمة خبيثة وقال له: "لكن يا عزيزي هذه المرّة موتورك يحتاج إلى غيار زيته، فقد ولدت لك زوجتك طفلا زنجيّا!!!!".
ضحكنا أنا ورشيد.
اسعدني الحديث والدردشة معه.
لقد أهداني عبد السلام هدية رائعة وثمينة.
*منجد صالح - كاتب ودبلوماسي فلسطيني
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com