لا يكاد يمر يوم الا ويسقط شهيد أو أكثر في عموم فلسطين، فتجد الخليل في الواجهة حينًا، وتجد نابلس وبيت لحم وعديد القرى الصابرة تتفوق، وقد تجد غزة تتصدر المشهد فتخطف الأنظار الكسلى وتلك اللاهية.
وفي كل ركن لا يتورع الشهداء على أن يتنسموا عبق الحرية، فيروّوا بدمائهم ثرى فلسطين من صفد الى بئر السبع مرورا باللد والرملة. فالأرض الواحدة تعرف أصحابها وتقبل القرابين وتدرك أن الفجر قادم.
إلا أن جنين تميزت بمجموعة من السمات جعلت علمها مرفوعًا في كل الأوقات، فهناك حديثًا مثوى الأبطال منذ النكبة عام 1948م، بل وما قبلها الكثير، حيث يتموضع الشهداء العراقيين الذين كان لهم من الصلابة ما عكس نفسه على وجوه أهل فلسطين ومدنها وقراها، وعلى جنين، فحين تتجه القوة بمواجهة المعتدي تُسفر الوجوه عن وضاءة لا مثيل لها.
حارات الخليل تعقد مقارنة يومية بين حقيقة المدينة العربية الصامدة، والأرجل الغريبة التي تطأها بعنف الغزاة، بمحاولة لاستيعاب الزيتون بحضن النباتات المتسلقة، وأنّى لهذه النباتات ان تسدّ الشمس عن العيون الفاتنة، ورجال الخليل ابدًا بالمرصاد.
لك أن تقول بالقدس ورائحتها الخالدة الكثير فهي ما بين البوابات والعمدان والمصليات والأقصى والبلدة القديمة واحيائها الحية قصة ثورة لا تنطفيء، فكلما أشعل الإرهابيون فيها النار بمظنة الإرهاب والتخويف وجدوا أبطالًا يسلمون الراية الى أبطال، قوافل تترى.
هي ذات الراية تتنقل عبر الجبال والسهول من الشمال الى الجنوب وتعود وهكذا بلا انقطاع ولا كلل، فالجهاد تواصل، والكفاح إيمان والنضال مثابرة والحقيقة شمس بازغة والنصر بإذن الله قادم قد لا يراه العميان ولكنه للمبصرين طريق.
تميزت جنين -ولكل بقعة في فلسطين ميزة بل ميزات- بالإقبال، فحيث تدخلها يقبل عليك أبناؤها بجنانهم وعطر أنفاسهم كأنك منهم، كما تميزت بالطيبة الى حد كبير لكن هذا لم يمنعها أن تكون قلعة من قلاع الحرية التي تأبى تلوثها بالأقدام الغريبة، فهل كان خيار عزالدين القسام بين حيفا وجنين عبثيًا؟ أم كان الشيخ فرحان السعدي لا يفقه ما يفعل؟ أم تراك بصلابة الضابط الأشوس بطل معركة مخيم جنين أبوجندل اندفاعُا في مقارعة الخطوب ترى السيف يتحدى الدبابة؟ وفيها وبأهل فلسطين كتب اللواء العربي العراقي محمود شيث الخطاب قصائد البطولة.
قال اللواء العربي العراقي خطاب عن وجوده إبان حرب النكبة "لم أكن غريباً عن أهل فلسطين عندما قدمتها مع الجيش العراقي الذي استقر في المثلث العربي: (نابلس – طولكرم – جنين)؛ ولكنني بعد مكوثي فيها سنةً كاملةً؛ ازددت علماً بها، فربطتني بأهلها – خاصةً أهل جنين الكرام – روابط من الصداقة، والثقة المتبادلة، والحب الصادق، تلك الروابط التي لا تزداد مع الأيام إلا قوةً ومتانةً"
في جنين تُقبل الشمس من تحت أجنحة الحب، وترسلُ أشعتها لتتلاقي مع موجات العبير القادمة من الناصرة وطبريا وحيفا وعكا، فالهواء مفتوح كما كان دائمًا لأن الارض لا تعرف الاسوار، وتعرف معنى الشجاعة والرجولة والإباء مما هو من صفات العرب الأشداء.
لعلكم لا تدركون أن في جنين أيضًا مرساة عيسى عليه السلام وقومه من العرب الأفذاذ الذين أورثونا الشجاعة والعنفوان منذ كان الغساسنة المسيحيين يقدمون القرابين للحب هناك، "أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح، فماذا يملّحه؟ لا يصلح إلاّ لأن يرمى في الخارج فيدوسه الناس" (متّى 5، 13) ، ومنذ كان العرب السريان (السوريين) والعرب الآراميين يشكلون في البلاد البهاء والفرحة مع كل القبائل العربية من اللخميين (بيت لحم) وبني تميم (الخليل والقدس ونابلس) والقيسيين واليمنيين وغيرهم الكثير، فهم إذ جبلتهم الأرض أصبحوا بلون التراب تراب فلسطين من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب في أم الرشراش.
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39-الحج))
في كل فلسطين ومنها في جنين يتساقط الشهداء فرادي وزرافات يدًا بيد كما كان يردد الخالد ياسر عرفات، لا يأبهون للطغيان والإرهاب والعدوان الهمجي، فهم أبدًا من فرسان الحق.
كثيرًا ما افتقدوا لحظات الوداع النجية، لكنهم لا يتراجعون، فهل تراجع أخي الصنديد عمار رحمه الله حين تصدى بلحمه الحيّ لطابور من المدرعات الصهيونية في وسط المدينة الجميلة إبان انتفاضة الأقصى؟ لعلك تقول بالطبع لا، وأنت الصادق الأمين، فإن كان كذلك فكيف يتراجع العربي الفلسطيني عن الذود عن تراب وطنه الذي ورثة من نصف مليون سنة على الأقل في كل بقعة أكانت سهلا أم جبلًا أم حذاء البحر أو البحيرة او الصحراء؟
مما سطّره محمود شيت الخطاب في أهل جنين قوله
أَجِنِينُ يَا بَلَدَ الْكِرَامِ تَجَلَّدِي مَا ضَاعَ حَقٌّ ضَرَّجَتْهُ دِمَانَا
إِنِّي لأَشْهَدُ أَنَّ أَهْلَكِ قَاوَمُوا غَزْوَ الْيَهُودِ وَصَاوَلُوا الْعُدْوانَا
لعل في نهر الدم المتدفق يثور ويقاوم نشم رائحة النعيم، ولعلنا نرى السبيل نحو الحرية.
فالظُلمة لا تبقى والنهار دومًا قادم، وأبطال الأنفاس العطِرة الفواحة حين يركضون، وحين يموتون تبقى حيّة، بالأجواء شذية. فتشمها حينًا في رائحة النرجس أو الياسمين أو الميرمية أوالطيون المتناثر في مرتفعات فلسطين وسهولها.
وحينًا تتشكل لك الروائح نقشًا أرجوانيًا في ثياب الامهات الساريات الى حقول الذهب، وقد يلتقط أنفك عطر رغيف الخبز المغمور بالزيت والزيتون يخرج من طابون جدتي وجدتك، وامي وامك، ليبوح بأسرارلا يعرفها الا العربي الفلسطيني الحر.
رحم الله الشهداء شهداء فلسطين وشهداء الامة التي أن نسيت ماتت، وإن ظلت تتلو سفر الحرية فازت.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com