أسدل الليل ستار ظلمتهِ فإكْتنف الكونَ غموضٌ رهيب، وما أن أسندتُ رأسي إلى وسادتي حتى تسارعت في مخيلتي الأفكارُ كأنها المَرَدةُ إنفتحَت قَماقِمُها فإنبعثت من محْبسها بعد طول الأمَد، ولاحقتني صورةُ صَبيٍ كان يبيع العلكة في ظهيرةٍ يُوقد هجيرُها اللافحُ مَفْرقاً تزاحمت فيه السياراتُ على إسفلتٍ يكادُ لهيبهُ أن يفورَ كالتنور.
ما أن إنقشعت الظلمةُ وسكبت الشمسُ فيضَ نورِها، حيث انسَلت حبِالُ النور الذهبية عبر نوافذ العباد وهي تبث الحياة في أرجاء المدينة التي عَلا صَخبُها مع نبض عقارب الزمن، حتى سارَع الغُلامُ ليعرِضَ بضاعتَهُ المُفرِطة في الوَضاعةِ على المارة وفي عينيه وحي التوسُلِ، ينبعثُ من خلال خُطوطٍ من القذارةِ التي إرتسمَت على وجنتيهِ لتُغَطِي كل سِمات الطفولة التي ما كانت يوماً إلا جوعاً وهوناً وضيقا. كانت ملامح الفتى تنطق ببُؤسه وقد علا غُبار الشارِع المخلوط بالعرق جبينَهُ كانها سطورٌ كتبها الزمنُ ليُخلِدَ في طياتها أمجاد معارِكِه مع نوائب الحياة. لقد اتّسمت ملامحُ الفتى بحُزنٍ مَشحونٍ بتفاصيلِ سيرةٍ دفينةٍ من الفاقةِ والتعاسةِ لم يُدرِك كُنهَها خَلَدي. لقد انبعثَت من عَينيهِ إيحاءاتٌ دافئةٌ صامتة، وإرتسمت على مُحياهُ تعابيرُ الطُهر والبَراءةِ وكانَ شعرُهُ المُنسدلُ يُداعبُ النَسمات الحارِقة برقةٍ ودلال.
كانت الخرق التي إكتسى بها جسده النحيل تكاد تكون ملابساً، إلا أنه بدا جلياً أن الزمن داعَبها أحوالاً فسلبها لونها وقرَضَها بنَواجِذهِ من قُبلٍ ودُبُر، فأضحت تنطق سيرة شقاء البشرية. والحذاءُ الذي إنتعلَه طعن في السنِ هو الآخر فانسلخ لحمه وبقي من الجسد نصفه أو دون ذلك، أما السائقون فكانوا يمرون عنه وكأنه جمادٌ خالٍ من مقوّمات الإنسانية، صنمٌ آخر لا يأبهُ له أحدٌ، تماما كشارة المرور التي يقف في ظلها، ليس له طموحٌ أو آمال، لا أمس له ولا غدٍ، ولا مُتسعَ له في إعتباراتهم أو همومهم أو ذاكرتهم.
كنت أراقب المشهد، والولد ينتقل من سيارة إلى أخرى يستجدي عطف الناس أملاً بزهيد الثمن، وكان الزمن إذ ذاك يتحرك بتثاقل عجيب. أحسست عقارب الساعة القابعة على معصمي كأنهما يتمطّيان كسلا، ولكن عزم الفتى لم يكِل، وما أن طالَ قُرصُ الشمسِ قلب السماء حتى طفقَ يعرضُ علكته على المارةِ باندفاعٍ غيرِ مُبرر، وسِماتُ التوسُلِ لا تُفارقُ وجهاً هجرته الطفولة لحظة خروجه إلى نور الحياة.
*****
كنت في ضيافة صديقٍ لي، عندما جاءَنا ابنُهُ يندب حظَهُ الحالكُ الظلمة، لأن هاتفَهُ المحمول بات "أثرا تاريخيا" يجعلهُ عرضةً لسخرية أترابه اللذين تبرَجوا بهواتف "الجيل الخامس"، تزعزع كياني لفرط المصيبة !!. كيف يمكن لهذا المسكين أن يمشي في الشارع أو يعتاد مدرسته وهو يتسلح بهاتفٍ بصقته الموضة منذ أسابيع خلت ؟!. إرتسمت بسمةٌ سخيفةٌ تنِمُ عن بَلادَةٍ وغباءٍ غيرِ قليل على مُحيا صاحبي، واعِداً خليفته المدلل بأفضل محمولٍ في السوق، يعيد له هيبته المسلوبة ويكيد به رفاقه، كانت سعادة الإبن تتخطى حدود الوصف ولا تدركها المعاني أو الإستعارات، أحس وكأنه يحلق في فضاء من النشوة وكأنه سيمد يده ليقطف عناقيد الثريا من صفحة السماء.
عندها بالذات، عاد بائع العلكة ليغزو فكري من جديد...
*****
ذات مساء، كنت في طريق عودتي من عملي في المدينة الموحشة الزاخرة بالحكايا. أما السماء في تلك اللحظة فقد كانت تنزف عند الأفق لتغزو حمرة الشفق زرقتها الرائعة والشمس المحتضرة تذوي في لحدها رويداً رويدًا لتعلن فيالق العتمة سطوتها على الكون المستسلم بهدوء مطلق، شرعت أبحث بعفويتي المعهودة عن بائع العلكة، الذي بات من معالم طريقي اليومي والذي إحتل مساحة من اهتماماتي، لا لعلةٍ إلا لشغفي المحموم بمآسي البشر، وعلمت ساعتها أن سيارة داسته وهو يزاول تجارته اليومية...!
شعرت صدمةً عنيفةً. كان وقع الخبر على مسامعي قاصماً ووددت ساعتها أن يكون ذلك كابوساً سرعانَ ما سأصحو منه، بيد أن الخبر كان شديد الصلة بالواقع.
فكرت ملياً، وفطنت أن بائع العلكة داسته الحياة منذ سنين قبل أن تدوسه تلكَ السيارة العابرة، وأيقنت أنه كان ميتاً سائراً على قدميهِ قضى وهو يتوسل السائقين ليشتروا علكته.
ضحكتُ ضحِكاً هستيرياً جلب أنظار السائقين إلى من بدا كمخبولٍ هاربٍ من مشفى الأمراض العقلية, كما لم يجلب إهتمامهم لكائن تسمّر على المفرق شهوراً في قسوة المطر وفي لهيب الشمس، ومضيت في طريقي لأذوب في سيل عارم من السيارات، وأنا أنظر إلى فتىً غضٍ آخرٓ إحتلَ المفرق ذاتهُ، وشرع لتوِهِ يتوسَلُ الناس ليبيع علكته.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.com