(للزمر) (والزّامور) في حضارتنا مكانة الشرف والعظمة منذ الأزل وعلى مر العصور. و"الزَمْر" ـ مصدراً ـ هو التغنّي بالمزمار. وحرصا منا على ايفاء الفائدة الأدبيّة حقها, نختصر لدى القارئ الكريم معنى (الزمر) عند فحول الّلغويّين العرب،إذ قال الجوهري (ت 395هـ) في (الصحاح) (ص 671) : (المِزْمَار، واحد المزامير، زَمَرَ الرجلُ يَزْمُرُ ويَزْمِرُ زَمْراً فهو زَمَّارٌ). وقال الفيروز آبادي (ت 817هـ) في (القاموس المحيط) (جزء 3 ص 318): (زَمَرَ الرجلُ يَزْمِرُ من باب ضربَ زَمْراً: إذا ضَرَبَ المِزمار، وهو بالكسر: قصبة يُزمر بها وتُسمّىْالشبّابة، والجمع مَزَامير). وقال الفيومي (ت 770هـ) في (المصباح المنير) (ص255): (المِزْمَارُ: آلة الزَّمْرِ). وقال ابن منظور (ت 711هـ) في (لسان العرب) (جزء 4 ص 327): (الزَّمْرُ بالمِزْمار، زَمَرَ يَزْمِرُ ويَزْمُرُ زَمْراً وَزَمِيراً وزَمْراناً: غَنَّى في القصب).
******
ولقد قفزت بنا الثورات الصناعية، فأغنتنا عن امتطاء الرّواحل من الابل والخيل التي نُظمت في جمالِها اروع الأشعار (دون أي علاقة تذكر لا بالزمر ولا بالتزمير !) الى ركوب السيارات التي أصبح (الزامور) فيها جزءا من حياتنا وحضارتنا وتراثنا العريق. الزّمر ايها الاخوة بات لغة متداوله لا يعفيك من دراسة قواعدها والالمام بنظم بلاغتها وفنونها عذر، لا شرعي ولا خلافُه، ويتوجب عليك (رغم أنفك !) أن تقرّ بمكانتها ورفعة شأنها، كيف لا والواقع ينبئك أنه يمكن ان تقرض قصيدة (او ربما معلّقة حتّى !) بحروف (زاموريّه) بدل الحروف الابجديّه باستخدامك (الزامور)،ذلك الاختراع الفريد الذي فاقت أهميته غزو القمر واختراع القنبله الهيدروجينيه.
* * * * *
قد لا يحيا الانسان على الخبز وحده, لكن، على الزامور وحده نحيا، بل ونحيا بألف خير. إذا احتفلنا بعرس، ينطلق الزامور، اذا نجح الإبن بالتوجيهي ينطلق الزامور أيضا، قبل أن تفتح الاشارة الضوئية نزمر، وبعد أن تفتح الاشارة نعود ونزمر. إذا أنهى قريبنا محكوميّة سجنه (بسبب جرم اقترفه) يزغرد الزامور، إذا توقفت سيارة ما أمامنا، إما لخلل أو لعلّة لا نفقهها ..... ليست مشكلتنا، إما بالليل او بالنهار...سينفجر الزامور لا محاله، ويا ليت شعري على سيارة الغاز، أو سيارة الخبز، أو الموز، أو حافلة نقل الاطفال الى روضاتهم، أو "هواة" جمع النحاس والالومنيوم الذين يجوبون القرية لاقتناء ما يصفونه (بمعادن للبيع) دون ان يرأفوا بالزامور المبحوح. واذا ما اعترضت مرمى أنظارنا فتاة ماشية في الشارع في حال سبيلها، فإن الزامور سيصرخ بهستيريا متطرفه حتى درجة الإختناق. أما إذا صادفنا "ابا فلان" في الشارع (بعد لوعة شوق وفراق وجفاء عمره أقل من ساعه !) وأردنا تحيّته (والتحيّة لا ريب سُنّة !) بإطلاق قذيفة (مرحبا)، فطبعا سنزمر، وليس مستهجنا أن يرد "أبو فلان" المرحبا (بمرحبتين) اثنتين، فمقابل زامورك ستحظى من المحترم (كيف لا !) بزامورين. سيصيح الزامور إذا قرر واحد منا التخفيف ليمرر احد المشاه، واذا فاز فريق الكرة الذي ندعمه (زاموريّا)، أو احدُ (عظماء العصر) في السوبر ستار او الستار اكاديمي، وبدافع مبدأ: (الجسد الواحد إذا اشتكى...) فسيخرج الحي بأكمله ليحيى اللحظة التي سطرها التاريخ، معبرا عن بهجته بلغة الزامور التي لا تحتاج لأي شيفرة لتفك رموزها. الزامور يعمل بسبب وبلا سبب، لهدف ومن غير هدف، وهل قدوم الخريف وانقضاء الصيف يحتاج تعليلا أو تفسيرا منطقيا ؟. الزامور، تلك البديهية الكونيه، لا ضرورة لمنحها صبغة المنطقيه، فهي منطقية بقدر زرقة السماء وخضرة الشجر.
* * * * *
قد يعترض من يعترض أن كلامي إفك ودجل وتضليل، فالحرية هي قدرتك على التعبير، وتسفيه الزامور (ألذي أثبت نفسه كأقوى وسيلة للتعبير) وتقييد صوته بمثابة كم للافواه ومسّ فاضح بالحريات المحمية لدى هيئة الأمم !!. هدئ من روعك يا صاح، لايضيرني أن تطلق "سمفونياتك" من التزمير، لكن المفارقة هي أن زامورك يخبو ويصمت عندما تداس حرياتك في المطار، وفي الحاجز العسكري، وفي مخفر الشرطة، وفي مكاتب الحكومة، وفي المدرسة والشارع والمستشفى ومحطة الباص والجامعة والفندق بل وفي المراحيض العامة، وأمام شرطيّ يود اقناعك انه يحرس الاقصى ويمنعك من ان تصلي داخله، وامام شرطي المرور وموظف الوزارة وكانس أرضيّة الوزاره ومندوب جباية الضريبة اليهوديّ الذي يقتحم حرمة بيتك ليهين العفيفات من نسائك وبناتك ويشهر سلاحه بوجههن قبل أن يبتز مالك ومن ثم كرامتك، وأمام المتشدقين الذين يتبارون (يوميا !) في سب رموز عقائدنا وأنبيائنا الاشراف، وأمام اولئك الذين هبطوا امس من بلاد لم نسمع بها ليعلنوها جهرا بأن مثلك نفاية واجب نفيها الى عمق البحر. لماذا يسكت الزامور عندما يباد شعب أعزل بمذابح ترتكبها اوقح قوّة احتلال سمع عنها (لكن: للاسف سكت عنها) التاريخ. أين "ترسانتنا" الناريه من اسلحة التزمير (لا التدمير) عندما يعم الفساد في بلداتنا فلا تأمن محصنة على نفسها حتى في بيتها من نهم حشرات المجتمع الجائعه أن تفتك بحياتها أو عرضها، ولماذا لا نزمر بصخابة لنعترض على نهب وحرق البيوت والاملاك، والتجهيل،وتعفن أجهزة التعليم، وتقصير السلطات المحلية، وتعيين الموظفين والمعلمين والمدراء والمفتشين وفق معايير المخابرات والانضباط التام للخطوط الحمراء التي يرسمها أشباح الظلام الخفيّون في معاقل السلطه التي يكتنفها الغموض. هل المّ الخرس في زامورك الان بالذات عندما لم تعد ابنتك او اختك بمأمن من معاكسات العصابات الشاذة من الشباب الهائم على وجهه الضعيف أمام شهوته وانحرافه على مداخل المدارس الثانويه, حيث تنشط الهرمونات وتنشط معها حركة السيارات التي تزعج السماء بضجيجها العبثي. الن ينطلق زامورك أمام القهر، والظلم، والرشوة،والخيانة،
والتواطؤ مع غاصبك، والذل،وضياع الهوية، والحياة بلا جدوى، وغدر الصاحب، والنفاق، وتزوير البسمات،والنهب، وقذف الشريفات في الجلسات الرخيصة على ارصفة الحارات، وتجميل ما هو ذميم، وتعظيم من هو دنيء،واذلالك لنفسك إرضاء لرب عملك،ومعاداة الناطق بكلمة الحق، والتغاضي عن العوج، والتصفيق لكل افّاق بخس يتمطّى كالدابّه ليقف خطيبا باثا للاكاذيب وانت موقن بدجله. قل لي،لا ابا لك، أليس هناك أجدر من هذه المواقف أن تنطلق فيها، وبلا هواده، ثورة زامورك العارمه ؟. ايها الشعب المنكوب بعقدة ضياع الكيان والشخصيّه: أعلنها ثورة لم تعتادوا نكهتها قبلا: أخرج للشارع وازمر ولا تهب، أطلق لغضبك العنان، وحطّم بالزامور الفتاك كل قيودك... لكن تريث لحظة: اياك بعد ذلك ان تفتري أني وعدتك، بأنك حينها, على عقدة خوفك وازدرائك ذاتك سوف تنتصر !!!.
ايها الشعب المنكوب بعقدة ضياع الكيان والشخصيّه: أعلنها ثورة لم تعتادوا نكهتها قبلا: أخرج للشارع وازمر ولا تهب، أطلق لغضبك العنان، وحطّم بالزامور الفتاك كل قيودك... لكن تريث لحظة: اياك بعد ذلك ان تفتري أني وعدتك، بأنك حينها, على عقدة خوفك وازدرائك ذاتك سوف تنتصر !!!.