مذاهب التخطيط العمراني الحديث تدعو ان يكون القرار التخطيطي نتاج إجراء مهنيّ يؤمن فحصا نزيها للمعطيات والحوائج والبدائل، بشكل يبتعد قدر المستطاع عن المؤثرات السياسية، حتى نصل الى التخطيط العمراني الأنسب. لا يعني ذلك ان التخطيط لا يستطيع ان يخدم أبدا أهدافا سياسية، بل ان لا يكون الاجراء التخطيطيّ محكوما بفكر سياسيّ أو ان لا يكون الهدف السياسيّ هو المحرك الرئيسيّ للتخطيط، لان ذلك يجعل التخطيط مقيّدا ومنحازا وعنصريا ويجعل الاجراء التخطيطيّ صوريّا وغير حقيقيّ.
وتدل شواهد مختلفة على ان التخطيط العمراني في إسرائيل أمر سياسيّ أكثر من كونه قرارا مهنيا. من بين أمور مختلفة أذكر ما يلي:
اولا، لا يمكن الشروع بإقامة بلدة جديدة الا بعد قرار أوليّ من حكومة إسرائيل ذاتها. أي ان الحكومة وهي جهة سياسيّة هي التي تقرر متى وأين ولمن يجب إقامة بلدة جديدة. وفي هذا الشأن اذكر انه منذ قيام دولة إسرائيل تم بناء مئات البلدات اليهودية بيد انه لم يتم إقرار أي بلدة عربية جديدة (سوى البلدات التي بنيت في النقب لتركيز المواطنين البدو فيها)!
ثانيا، حكومات إسرائيل المتعاقبة وضعت اهدافا سياسية "قومية" للتخطيط واهمها تهويد النقب والجليل وهو ما أدى الى تجنيد جهاز التنظيم والبناء من اجل تحقيق هذه الأهداف وقد كان ذلك على حساب البلدات العربية في الجليل وامكانيات تطورها وعلى حساب القرى البدوية في النقب. قانون أساس: القومية الذي أكد الهوية اليهودية للدولة عزز هو أيضا من "شرعية" التخطيط لتهويد الحيز والبلاد.
ثالثا، وزير الداخلية وحده الذي يملك القرار بتوسيع نفوذ بلدة معينة او الاقتطاع منه. وتدل التجارب المختلفة في هذا المضمار ان قرار الوزير مدفوع بمعايير ومصالح سياسية وخاصة عندما يتعلق الامر بتوسيع نفوذ البلدات العربية اذ لم يقبل وزراء الداخلية طلبات توسيع البلدات العربية الا بعد شروط تعجيزية وبعد مماطلة ولم يكن توسيع البلدات الا لجزء من المساحات المطلوبة.
رابعا، وفق قرار وزير الداخلية فان اغلب السلطات المحلية والبلديات اليهودية هي نفسها لجان تنظيم وبناء وهي قادرة بفعل ذلك على تحريك المخططات العمرانية اللازمة والسيطرة على التخطيط والعمران في نطاق نفوذها، في حين ان خمس بلدات عربية فقط تعمل كلجان تنظيم وبناء محلية، لتتبع باقي السلطات المحلية العربية للجان تنظيم وبناء إقليمية وهي لا تملك بنفسها القدرة على ضبط التخطيط والعمران في نطاق نفوذها.
خامسا، ان غالبية أعضاء المجلس القطري للتنظيم والبناء ولجانه الفرعية وأعضاء اللجان اللوائية للتنظيم والبناء ولجانها الفرعية، وهي الهيئات التي ترسم وتضع قواعد التخطيط العمراني في البلاد، هم ممثلي الوزارات المختلفة في الحكومة، وكل عضو يمثل سياسة الوزير الذي انتدبه. هذا يؤمن سيطرة كبيرة للحكومة على مؤسسات التنظيم والبناء وعلى مضامين الخرائط الهيكلية التي تصدّقها هذه المؤسسات. أذكّر ان نسبة الأعضاء العرب في المجلس القطري وفي اللجان اللوائية وفي المناصب التخطيطية الهامة تكاد تكون معدومة وهو وجه من أوجه إقصاء المجتمع العربي عن دائرة القرارات في مجال الأرض والتخطيط.
وبفضل هذه العوامل وعوامل أخرى عديدة نجد ان التخطيط العمرانيّ في إسرائيل مقادٌ من الحكم المركزي، "من الأعلى"، ولأهداف سياسيّة عليا. أحيانا يتم الإفصاح جهارة عن هذه الأهداف السياسية ولكن في اغلب الأحيان يتم إخفاء هذه الأهداف والتستر عليها من خلال ذرائع ومسوغات وطعون تخطيطيةّ تبدو وكأنها مهنية. يتنافى هذا الوضع مع القيم الإنسانية والديموقراطية والدستورية التي على الدولة ان تنتهجها كدولة ديموقراطية. علينا جميعا كمجتمع وافراد ومؤسسات ان نعمل لتغيير مفاهيم التخطيط العمراني ونقله من تخطيط سياسيّ وعنصريّ الى تخطيط ديموقراطيّ وعادل. هو أمر صعب المنال ولكنه ليس مستحيلا.
*يحمل درجة الدكتوراة في القانون من جامعة تل ابيب، ورئيس قسم التنظيم والبناء في مكتب محاماة م. فيرون حيفا