ونحن نتابع تطورات الأيام الأخيرة على الجبهة مع قطاع غزة، بما في ذلك العمليات العسكرية الدموية على الأرض التي تشنها إسرائيل ضد المدنيين العزل في القطاع، والتصريحات الرسمية للقيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، تقفز الى الاذهان ثنائية (الانتخابات/والحرب) التي أصبحت ملازمة للمشهد السياسي الإسرائيلي في أكثر من منعطف تاريخي، حيث تخوض الأحزاب الصهيونية معركتها الانتخابية عبر شلال من الدماء والاشلاء الفسطينية...
(1)
يأتي التصعيد الإسرائيلي الدموي هذه المرة في الوقت الذي تستعد فيه إسرائيل لخوض انتخابات برلمانية هي الخامسة من نوعها منذ العام 2019 وحتى الآن... اللافت في مشهد الانتخابات/الحرب في هذه المرحلة ان الحروب السابقة خاضتها حكومات بقيادة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، أما هذه الحرب فتخوضها حكومة بزعامة يائير لابيد والتي وُلدت من رحم أزمة سياسية عميقة افشلت نتنياهو من تشكيل حكومة، بينما مَكَّنَتْ عددا من الأحزاب من اليمين والوسط واليسار وكلهم من المعارضين لنتنياهو، من تشكيل حكومة اسموها "حكومة تغيير"...
هذه الحكومة تعاني من أزمات داخلية في تركيبتها وعطب في نسيجها، وعوار في انسجام مكوناتها، كما تعاني من ضعف في صورتها أمام الرأي العام اليميني. لذلك - كما سابقاتها في الماضي - رأت من المناسب ان تبدأ حملتها الانتخابية بإعلان الحرب على قطاع غزة، طمعا في حصد بعض الأصوات وتحسين وضعها الانتخابي ولو على حساب الدم الفلسطيني!
لماذا تتذكر حكومات اسرائيل غزة قبل كل انتخابات تخوضها، فتُجري على ارضها المقدسة الدماءَ انهارا، وتحولها الى كومة من ركام، وجبل من معاناة وآلام، أمام سمع وبصر النظام العالمي المجرم؟!!.. سؤال سيظل الجواب عليه وصمة عار في جبين إسرائيل، كما في جبين المجتمع الدولي الذي ما زال عاجزا عن لجم إسرائيل وإجبارها على الالتزام بالشرعية الدولية ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية!
وقع مثل ذلك في السابق حيث شن أولمرت حربا وحشية أُطلق عليها "الرصاص المصبوب" ( 27.12.2008 - 18.1.2009) سبقت انتخابات الكنيست في العام 2009، كما وشن نتنياهو حروبا ضارية ووحشية على (قطاع غزة) كحرب "عمود الغمام" (14.11.2012- 21.11.2012) والتي سبقت انتخابات 2013، وكحرب "الجرف الصامد" (26.8.2014 - 8.7.2014)، التي سبقت انتخابات 2015، وكحرب "حارس الاسوار" (21.5.2021 – 10.5.2021)، والتي أطلق عليها الشعب الفلسطيني "معركة سيف القدس"...
قد يدَّعي البعض ان رئيس الوزراء الحالي لابيد يعيش "شهر عسل" مع الإدارة الجديدة في البيت الأبيض بزعامة جو بايدن، الذي استقبله بحفاوة قبل أسابيع في إسرائيل، وأنتزع منه بأنه "صهيوني" حتى النخاع، ولذلك لا يُخشى من سقوطه المدوي، الا ان الوضع ليس بهذه البساطة، فالخريطة السياسية الإسرائيلية في السنوات الثلاث الأخيرة منقسمة بشكل عميق، لكن الوضع هذا سائل الى حَدٍّ يمكن ان ينقلَ السلطةَ من طرف الى آخر (كتلة نتنياهو وكتلة التغيير) بشكل مفاجئ بسبب انتقال عدد محدود من المصوتين من جهة إلى أخرى!
رغم ذلك أؤكد هنا أننا لا نُعَوِّلُ على أي تغيير في الخريطة السياسية الإسرائيلية يمكن ان يدفع في اتجاه حلحلة الاوضاع وذلك لغياب الفوارق بين الأحزاب الطامعة في الوصول الى مقر رئيس الوزراء الإسرائيلي في القدس الغربية. فمن يتابع تصريحات (بيني غانتس) زعيم حزب (أزرق – أبيض) الإسرائيلي الذي يطمح في تشكيل الحكومة بعد انتخابات الثالث من شهر تشرين ثاني 2022 بعد ان وقع اتفاقا مع رئيس حزب (تكفا حداشا) الوزير اليميني غدعون ساعر، يلحظ السباق المحموم بينه وبين لابيد (الشريك في حكومة التغيير)، الذي يطمح هو أيضا الى تشكيل الحكومة بعد الانتخابات الوشيكة، في التعبير عن أكثر السياسات الداخلية والخارجية تطرفا ضد الشعب الفلسطيني..
بل لا أكون مبالغا إن قلت ان مواقف (غانتس) و (لابيد) لا تبدو أقل تطرفا من مواقف نتنياهو في ملف فلسطين/إسرائيل وغيرها من الملفات المحلية والإقليمية والدولية، بما في ذلك سياسة الاغتيالات للقيادات الفلسطينية والتي سارع لدعمها وتأييدها بعد اغتيال القيادات في الجهاد الإسلامي في غزة خلال الحرب الحالية...
(2)
أشكك في قدرة اسرائيل على ان تحقق أي انجاز حقيقي في أي حرب تشنها على قطاع غزة، ما عدا ما ستخلفه وراءها من قتلى وجرحى، ودمار شامل سيعمق حتما حالة الغضب والاحباط في اوساط الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يمكن ان يفجر الأوضاع داخل اسرائيل وخارجها، مما سيدفعها في النهاية الى التوجه لأطراف دولية للتوسط من اجل وقف لإطلاق النار، وحتى الاستعداد لوقف إطلاق النار من جهة واحدة، ثم قبولها في النهاية باتفاق على نحو الاتفاق الذي اقره نتنياهو في حربه على قطاع غزة عام 2012 (عمود الغمام)، والذي أنجزته القيادة المصرية الثورية في حينه برعاية الرئيس المصري الشهيد الدكتور محمد مرسي - رحمه الله.
اعتقد ان تجارب الماضي أصدق شاهد وأكبر دليل على أن القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية لم تنجح كعادتها في معرفة حجم قوة المقاومة الفلسطينية وقدراتها العسكرية التي استطاعت إدخال الملايين من الإسرائيليين تحت الأرض بفعل صواريخها التي وصلت مدىً لم يتوقعه أكبر الخبراء العسكريين والأمنيين الإسرائيليين...
نلاحظ ونحن نتابع وقائع الحرب الجديدة على قطاع غزة، تَبَجُّحَ رئيس الوزراء لابيد ووزير الحرب غانتس، بتحقيق عملية (بزوغ الفجر) الحالية أهدافها. تابعنا نفس الصورة لنتنياهو كرئيس للوزراء وليبرمان كوزير الخارجية وبوغي يعلون كوزير للحرب في مؤتمر صحفي مشابه بعد حرب الجرف الصامد في العام 2014. كان حديثهم منصبا على ان الحربين حققتا اهدافهما، لكن الرأي العام الإسرائيلي شكك كثيرا في مصداقية تصريحات مسؤوليه، كما وَعَبَّرَ الكثير من المحللين والخبراء الإسرائيليين في حينه عن افتقار زعماء إسرائيل للشجاعة في قول الحقيقة المرة للمجتمع الإسرائيلي وهي ان إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها التي رسمتها، هذا إن كانت هنالك اهداف اصلا.
لم توقف الحروب السابقة الصواريخ الفلسطينية على تواضعها من الوصول إلى العمق الإسرائيلي وتهديد المناطق الحيوية، كما لم تقدم إسرائيل معطيات تفيد بأنها قضت على القدرات الصاروخية الفلسطينية. لم تنجح إسرائيل ايضا في نزع سلاح المقاومة، ولم تعط اية ضمانات تقنع الرأي العام الاسرائيلي بأن أمنها أصبح مصانا بعد التوقيع على اتفاقيات وقف إطلاق النار. فشلت إسرائيل أيضا في دفع الفلسطينيين في نهاية كل حرب إلى رفع الراية البيضاء وتوقيع أوراق الاستسلام. واضح أن شيئا من هذا لم يتحقق!!!
(3)
أذا ماذا حققت إسرائيل في حروبها المدمرة على قطاع غزة والضفة الغربية، بما في ذلك هذه الحرب الحالية التي ما زالت تتدحرج حتى كتابة هذه الكلمات؟
لقد قتلت عشرات المقاومين، ودمرت عددا من منصات الصواريخ.. هذا صحيح. لكن إسرائيل تصر على الا تفهم من متابعتها تاريخ النضال الفلسطيني أن قتل قيادي فلسطيني واحد مهما بلغ في مكانته يولد في الشعب ألف قائد بدلا منه. إذا ما حقيقة ما خلفته إسرائيل فعلا في حروبها الوحشية على غزة؟ قتلت وجرحت الالاف من الفلسطينيين، أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ.. دمرت المقرات الحكومية والمدنية الخدماتية والمساجد والمدارس والمستشفيات، واستهدفت العمارات السكنية والبيوت الخاصة والمزارع والمصانع والبنى التحتية، ونسفت البنوك وهدمت الاستاد الرياضي الوحيد تقريبا في غزة.. سرقت البسمة من وجوه مئات آلاف الغزيين الصابرين، وحولت قطاع غزة إلى بيت عزاء كبير.. هذا ما فعلته إسرائيل على الحقيقة، وهذا ما يتباهى به قادة إسرائيل في مؤتمراتهم الصحفية في كل حرب. فهل هذا هو الانتصار؟ ...
لم يكن من الصعب التقاط علامات الخزي والعار من تعابير وجوه الزعماء الإسرائيليين في نهاية كل حرب، وعدم اقتناعهم بما ساقوا (لشعب إسرائيل !!) من أرقام، وما قدموه من قراءةٍ لمشهدِ الحروب ونتائجها.. من الواضح أن المقاومة الفلسطينية رغم تضحيات الشعب الفلسطيني الأعزل، قد فوتت على القيادات الاسرائيلية ما كانوا يتمنونه من حروب خاطفة تشل حركة المقاومة من الضربة الأولى، في الوقت الذي يبقى فيه (شعب إسرائيل !!) يتريض على الشواطئ وفي المتنزهات، ويعيش حياته الطبيعية متمتعا بوجبة يومية من دماء وأشلاء الفلسطينيين تقدمه وسائل الإعلام الإسرائيلية المرئية والمسموعة والمقروءة يوميا في نشرات الأخبار وهو يتمدد مسترخيا على أريكته...
هذا ما تخيلوه، إلا أن شيئا من ذلك لم يتحقق، إذ وصلت الصواريخ الفلسطينية إلى عمق الاحياء الإسرائيلية حتى وصلت تل أبيب والقدس الغربية، واضطرت الاسرائيليين إلى الفرار والنزوح، او الهرب إلى ملاجئهم تحت الأرض وفوق الأرض، وقد أصيبوا بالهلع والرعب كما رأينا في عشرات أشرطة اليوتيوب. هذه هي الحقيقة التي لن يستطيع قادة إسرائيل إخفاءها مهما حاولوا.
لماذا يصر قادة إسرائيل إذا الى العودة الى ذات التجربة، ولماذا يرفضون الاعتراف بان الحل لا يمكن ان يكون عسكريا، وانما سياسي بامتياز، تعترف اسرائيل من خلاله بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال وكنس الاحتلال، وانهاء الحصار الظالم عن قطاع غزة؟!
ان حروبا مهما بلغت في شراستها لن تفت في عضد الفلسطينيين بل ستزيدهم اصرارا على الدفاع عن حقوقهم المشروعة بغض النظر عن كَمِّ التضحيات التي سيقدمونها في سبيل ذلك. لذلك أستغرب كثيرا من إصرار لابيد على انه قادر ان يحقق ما ثبت أنه ليس أكثر من وَهْمٍ وسراب خادع في حروب سابقة؟!
لا استبعد أنه لو يتنبأ القادة الاسرائيليون بالنتائج كما جاءت على الارض، أو لو يتعلمون من تجارب من سبقهم في هذه الطريق، لما أقدموا على حروبهم ضد غزة ابدا... فلماذا يكررون التجربة بالرغم من الفشل المستمر، ولماذا يعودون الى نفس المغامرة وقد تطورت قدرات المقاومة كثيرا منذ ذلك الوقت باعتراف الخبراء الاسرائيليين أنفسهم؟! إنها "الفطرة" الإسرائيلية الصهيونية السقيمة التي تتميز بالفوقية العنصرية من جهة، وبالانتهازية الصهيونية من الجهة الثانية، ونزعة الطغيان من الجهة الثالثة.
(4)
صحيح ان الأوضاع العربية والإقليمية والدولية لا تلعب لصالح الفلسطينيين في هذه المرحلة، إلا ان القضية الفلسطينية ستظل حية ونابضة بالحيوية لأنها قضية شعب فرض حضوره على الساحات المحلية والإقليمية والدولية بقوة بفعل الصمود الفلسطيني الأسطوري وإصرار الشعب على انتزاع حقه وعدم التفريط في تراب وطنه ومقدساته، ولأنه نجح في إفشال كل مخططات إسرائيل لشطب الرقم الفلسطيني الصعب من على جدول اعمال المجتمع الدولي والعرب والإسلامي الشعبي والرسمي.
مهما قيل في تراجع الدعم العربي والدولي للقضية الفلسطينية إلا ان هذه القضية ما زالت تحصد التأييد مرة تلو الأخرى في المحافل الدولية ولعل أهمها ما حققته بشأن القدس وعدم مشروعية كل ممارسات الاحتلال الاسرائيلي.
ما زالت شعوب العالم تعبر عن دعهما للحق الفلسطيني واستعدادها للانتقال بالقضية الفلسطينية إلى آفاق جديدة ستكون إسرائيل فيها أكبر الخاسرين حتما. المعاناة الفلسطينية والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجه القضية الفلسطينية ستدفع الشعب الفلسطيني عاجلا او آجلا إلى تحقيق الوحدة الوطنية والالتفاف حول الثوابت الراسخة ومواجهة المخاطر من خلال جبهة واحدة تقدم الوطني الجامع على الفئوي الضيق.
اعتقد أن الأحداث الأخيرة كشفت القناع من جديد عن الوجه الحقيقي البشع للسياسة الاسرائيلية الرافضة لأية حلول حقيقية تضع المنطقة على الطريق الصحيح، والمصرة على العدوان والاستيطان والتنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة. ان استمرار اسرائيل في سياساتها هذه لن تؤدي الا الى المزيد من المعاناة لكل شعوب المنطقة بما في ذلك الاسرائيليين.
(5)
لا يحتاج الأمر إلى ذكاء خارق من أجل التقاط الأهداف الانتخابية - السياسية للحرب التي تشنها حكومة لابيد على قطاع غزة... هل سيمضي لابيد في لعبة (الانتخابات والحرب) معتقدا ان حربه على الفلسطينيين في غزة سيحقق له الانتصار في الانتخابات الوشيكة؟! طبعا، لا...
مهما كان قرار لابيد أو غيره من الزعماء الصهاينة، فليس امام الشعب الفلسطيني في ظل الظروف الحالية من بديل إلا ان يسارع في أنجاز الوحدة الوطنية وتجاوز حالة الجمود الذي لا مبرر له مطلقا، وأن تندفع قيادات الشعب الفلسطيني إلى مزيد من الاجتهاد في اتجاه تنفيذ استحقاقات اتفاقيات المصالحة الموقعة بين الأطراف في السنوات الأخيرة.
تجاوز هذه المرحلة على قاعدة الثوابت والرؤية الواقعية لما وصلت إليه القضية سيعزز الوحدة الوطنية، وسيجعل حلم إنجاز التحرير والاستقلال أقرب من ذي قبل، وعليه فلا بديل أمام القيادة الفلسطينية إلا التركيز على أولوية الوحدة الوطنية وإنجازها في أسرع وقت ممكن من أجل الانطلاق نحو مرحلة انتزاع الحقوق والبناء، خصوصا ونحن نرى الاصطفاف الإسرائيلي المتطرف، وسعي إسرائيل الحثيث إلى مزيد من التصعيد..
*** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني