نحن حينما نكتبُ كلماتنا، إنما نكتبها، بدمعِ عيوننا الصافي، المَعين، الزُلال..
ونُوَشِّيها بدم قلبنا الأحمر، الأرجواني، النابض، الخفاق، ومن مهجة قلوبنا المفعمة بالحياة، ومن مهجة أرواحنا المحلقة في السماء، ومن حنايا أضلاعنا الرقيقة، الدقيقة.
ونُزخرفها بالعَسجَد، والياقوتِ، والمَرجان..
ونُضَمِّخها بالطيب، والمسك، والكافور، والعَنبر، وعبق الورد، وأريج الياسمين، والآس، والريحان، والأقحوان..
ونَصوغُها باللآلئ، والجواهر، والزمرد، والألماس، والعقيق، والفيروز، والزَّبَرْجَدِ، والدُّرِّ المنثور..
ونَسبِكها بخيوطٍ من أنسجة خلايا أجسادنا، النابضة بالحياة.. وليس من خيوط الحرير، أو القنب، أو الكتان.
ونصنعها من أوتار عضلات أجسامنا، المتدفقة بالحياة، والنماء، والرواء..
ونزينُها بحبال من أعصابنا، التي تحمل نبضات الحركة، والنشاط ، والمتيقظة، والمتحفزة، والمتوثبة إلى بلوغ ذرى المجد، والسؤدد، والرفعة، والسناء، والإباء، والشموخ.
ونُجَّمِلُها بأهداب عيوننا الفاحمة السواد، كقطع الليل المظلم البهيم.. إذا أرخى سدوله، أو كالدجى إذا ألقى بجِرانه.
ونحيطها بأسناننا المتلألئة، الناصعة البياض؛ لتحرسها من اللصوص الغادرة، الكاسرة، المتوحشة، والمفترسة.
ونُخبئها في جفون عيوننا الساهرة، المتيقظة..
ثم نستودعها، عند من علمنا هذه الكلمات الرائعة، الفائقة الإتقان، ذات الصنعة البديعية، والبلاغة الأدبية الراقية.
ونضعُها في يده؛ لينشرها كيفما يشاء، وكما يشاء، ونطلبُ منه المكافأة المُجزية اللائقة بكرمه، وجوده، وإحسانه في الدنيا والآخرة؛ لاستخدامنا هذه الكلمات العذبة، القوية في الدفاع عنه، وعن حدوده، وخصائصه.
ثم نكافحُ، ونناضلُ، ونجاهدُ، حتى نموت من أجلها، وفي سبيل من علمنا إياها؛ لتتحول من بعد ذلك، إلى عرائس المجد، تتحرك، وتتبختر بين الأحياء، وإلى قاذفات اللهب، لتنقض على الأعداء فتحرقهم، ولتنفض عن الخامدين، والهامدين، والقاعدين، وسَن النوم، وتوقظ السكارى، وتهدي الحيارى، وترشد الضائعين، التائهين، إلى الطريق المستقيم..
إن كلماتنا المنبعثة من صميم أعماق قلوبنا، والتي تحمل عصارة دمائنا.. لن يفهمها الغثائيون، ولن يعقلها التافهون، ولن يدرك أسرارها الغوغائيون، الذين هم في سكراتهم يترنحون، وفي المستنقع الآسن، النتن، يسبحون..
ولن يدركها من ختم اللهُ على قلوبهم، وسمعهم، وألقى على أبصارهم غشاوة.. فهم لا يسمعون، ولا يُبصرون، ولا يعقلون
أولئك الذين لا يفرقون بين البعرة والتمرة، ولا بين التِبر والتُراب، ولا بين الثور والبقرة، ولا بين الذال والزاي..
أولئك! أوْلى لهم، أن يبقوا يَنعِقون بما لا يسمعُ، إلا دعاءً ونداءً.. صمٌ، بكمٌ، عميٌ.. فهم لا يفقهون..
فلا نأسى على قطيعٍ شاردٍ، تائهٍ، ضائعٍ، مصرٍ، ومصممٍ على الضياع.. لا يُلقي بالاً لمثل هذه الكلمات الرائعات، الراقيات، ولا يأبه بها.
ولا نأسى على أن عدداً قليلاً جداً من الناس فقط ، هم الذين سيُعجبون بكلماتنا اللاهبة، المزلزلة، القوية.
لأن الأحجارَ الكريمةَ، دائماً هي نادرةٌ جداً، أما الحصى والترابُ، فيَطِمُّ الأرضَ كلها..
ولكن – بالتأكيد - سيفهم كلماتنا هذه المسبوكةِ بنسيجٍ من دمائنا، والمحبوكةِ بخيوطٍ من خلايانا، أولو الحِجا، وأولو الألباب، والبصيرة، وذوو العقول النيِّرة، وذوو الأحلام الرشيدة، وألو النُهى، وذوو حِجرٍ، ورأي سديدٍ..
وكفى بهم رفيقاً، وصاحباً، وخليلاً.
إن كلماتنا هذه! الرصينة، المتزنة، لا نكتبها للفكاهة، ولا للتسلية، ولا للضحك، ولا للعب، ولا للمُزاح..
ولا نكتبها أشراً، ولا بطراً، ولا للسُمعة، والشُهرة، ولا لنَحصِد من ورائها، آلاف الإعجابات التافهة، السخيفة، التي يُهرول، ويَلهث وراءها، السفهاءُ من الناس، وألو الأحلام الخفيفة، وذوو العقول الضعيفة، وذوو النفوس المريضة..
نحن نكتبُ كلماتنا البديعةَ؛ لأجلِ اللهِ وحده، وفي سبيلِ اللهِ وحده، وللدفاعِ عن الحقِ، ولنَزهَقَ بها الباطلَ، ولنفضحَ المتآمرين على ديننا، وعلى أوطاننا، ولنهتكَ أستارَ المتسربلين برداء الدين، الذين يأكلون الدنيا بالدين، ويخدعون الناس، ويُضلونهم عن طريق الحقِ المبين.
ولنكشفَ المعتدين على سلطان الله، وعلى خصائصه في معرفة الغيب، ولنثبتَ أن له الحقَ الكلي المطلق، والكامل في الحُكم، وفي إدارة شؤون البشر بكافة فروعها وأنواعها، السياسية وأخواتها، عن طريق تطبيق تشريعه الذي أنزله الله هدى للعالمين، ورحمة للناس أجمعين.
ولنبينَ للناس سبيل المجرمين، المفسدين في الأرض، انقياداً لأمر الله تعالى الذي يقول: ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)﴾ الأنعام.
هذه هي كلماتنا التي نُحيكها، وننسجها من خلايا أجسادنا الحية، ومن حبال أعصابنا الشوكية، والإرادية، واللاإرادية، ومن نياط قلوبنا، ومن عروقنا التي تحمل دماءنا، وتجري في أجسادنا.
15/1/1444 13/8/2022
د/ موفق السباعي