تعاطفا مع الذين أحنى الزمان ظهورهم , حتى كادت جباههم تلامس الأرض , فقبّلوا التراب شموخا وعزّة , ليعلّمونا معنى الكبرياء , اٍنّهم آباؤنا !
كان يشقى ويعرق , ليوفّر لهم لقمة العيش , وستر الحال , لينعموا هم بحياة كريمة , كان ينسل نفسه من دفىء الفراش , يتسلل في هدوء , يمشي رويدا على أطراف أصابعه , يتنفّس همسا لكي لا يحدث ضجّة , يتنحنح ساكتا , لكي لا يزعج نائما , ويكملون هم نومهم هانئين ! يخرج بلا صوت , ليواجه صخب الحياة , ببردها القارص وبشمسها الحارقة , بعدما تفقّد أطفاله الصّغار , واطمئنّ على صحة نومهم في الفراش وهيئة الغطاء ! فعندما يستيقظون , يكون هو يتصبب عرقاً , هناك في ورشات العمل , وفي رأسه همومهم وحاجاتهم واحتياجاتهم , من المأكل والملبس , ومن دفاتر وكتب وأقلام وأحذية ! وكلّما تمثّلت هذه المتطلّبات في ذهنه , زادته اٍرادة وقوّة وصلابة وعزيمة ,على مكابدة الحياة وضغطها المستمر حتى الملل !
قاتل الله الفقر كيف يوجب القهر , فتراه يخفي وراء عينيه دموعا عصيّة , ومن اٍباء النّفس , شقّت طريقها الى الدّاخل , عبر مسالك تمتصّها العروق والأوردة كي لا ترى , لكن حين يمتلىء الدّاخل ولم يعد يتّسع الوعاء , يسيل الدمع عنوة , لكن بصمت مبكٍ كأنّه عرق , فيضعف أحيانا , انّه الانسان ولم يعد يقوى على حصر الدموع أو منعها ولو حاول ! ولا مكان لها الا الخروج مهما كان عصيّا ويأبى العلن , خاصّة وأنّه لا يتقن فنّ الصراخ , لذا , سيبقى الصّوت حبيس القهر صامتا يتأوّه وبالدّمع يتكلّم !
وهذه الحقيقة , تفرض على هذا النوع أحيانا , أن يعيش خارج نفسه , ليعلّم الصبر كيف يصبر , يوهم الناس تمثيلا , أنّه ما زال على قيد الحياة , وأنّه ما زال رقما قائما وجودا وحيّزا ! يا له من جبروت , كيف يملك القدرة على اخفاء حقيقته , انّها الكرامة , لها قيمة فيه , تدفعه ليبقى فيه ذاته ! يا لها من ارادة , عصرتها الحياة فيه , ليكون هو مدرسة الحياة , وهي أن تبقي الأنت فيك , أو أن تبقى أنت ذاتك , ولو مال الدّهر عليك , وانقلب الزّمان , وأصبحت هامشيا , ينظر اليك الظالمون بازدراء !
قال الحكماء , لو لم تكن الحياة صعبة , لما نزلنا من بطون أمّهاتنا نبكي !!
نعم , انها ظاهرة نلحظها اليوم في أبنائنا , ولا شك أنّه مسلسل عبر الأجيال , في علاقة الأبناء بآبائهم , أو الغالبيّة منهم لكي لا نظلم البعض ممن ندر , هؤلاء الذين سخّر الله لهم آباءهم , حتى أخذ العجز ينهش عافيتهم , والضعف ينخر عظامهم , فانتهت مهمّتهم كأرباب معيلين , وسلّموا الراية والمسؤولية لهؤلاء الورثة , كأمانة عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال , وحملها الانسان , انه كان ظلوما جهولا , لكن هل كمثل هؤلاء المستضعفين اليوم أن تنتهي أدوارهم ؟ بالطبع لا , فلا تنتهي حاجة المجتمع اليهم , كشيوخ وكعقلاء , وان ضعفت أجسامهم , فرجاحة العقل باقية فيهم , وصالحة للاستعمال , وان أصبحوا عالة على أبنائهم , فليتذكّر الأبناء , أنّهم من أجلهم أهلكوا صحّتهم ! وبما أني هنا أمثّل دور الكبار , فأنصح الأبناء أن ينظروا الى أبنائهم , ليروا أنفسهم في عيون آبائهم !
أعلم أنّ الطّريقة المثلى لتربية الأولاد , في أن نكون المثل الأعلى لهم , لكني أعلم أيضا , أنّه من الستر أن نبقي الأفواه مغلقة , فكثيرة هي الحالات التي تصل حدّ الفضيحة !
هذا حال الصّراع الدّائر للأسف بين الأجيال , فترى الوضع أحيانا مبك , محزن , مخجل , مخزي ومعيب , حين ترى القهر في وجوه بعض الآباء الذين كانوا يوما رجالا وأقوياء !
وأعلم أيضا أنك لكي تقول ما تريد , يجب أوّلا أن تملك الجرأة , غير آبه لردود الفعل , وأن تكون قادرا على خلق التعابير , لكي تنقل الواقع اذا كنت مقتنعا بما تقول وبما تفعل , ولا أنكر أنني أشعر بالعجز أحيانا , مع كلّ الغنى في لغتنا , فهي أحيانا لا تفي , بل وتأبى الحضور عند الطّلب , وهنا يعود العجز لي , غير أنّ الحاجة تحثّنا دائما لنبحث عنها , كما يبحث العطاش عن الماء !
أؤمن أنني أفصح بهذا عن مكنونات ما في صدور الكثيرين من العاجزين , لكن أؤمن أيضا أنّه حتّى ولو كان الصّوت أخرسا , فلا أشك أنّ وقعه سيهدهد الأجواء في صداه , محدثا دويّا قويّا ولو كان في مجتمع لا يكترث !
أكتب وأستغرب كيف لا أفكّر بالهرب , وهناك منهم من يرصد الكلمات , ومنهم من يصغي اليّ ويحصي على الهمس عبر الأنفاس , أو هكذا يخيّل اليّ , فيكون العقاب عسيرا , امّا بسحب اللسان أن تكلّم , أو ببتر اليد التي تكتب , أو باخماد الصّوت حتى يخرس ! لكن أعدكم
سأستمرّ !وهل يستحق كهؤلاء الأبناء أن يمسخ آبائهم من أجلهم ؟ أو تلغى هيبتهم الى حدّ المحاق ؟قد أكون مخطئا , لكن لا , فقناعتي بلغت حد القسم !!وكيف نغفر في صفقة نحن تجّارها فبارت , ونحن القرابين فيها , فهل نبحث عن ضحيّة ونحن نراهم معلّقين , فلا أصدق ولا أبلغ من الوصف لما نراه من قول الشّاعر بحق عقوق الوالدين :
أعلّمه الرّماية كلّ يوم فلمّا اشتدّ ساعده رماني
وكم علّمته نظم القوافي فلمّا قال قافية هجاني
وكم ينطبق هذا القول على واقعنا , مع أبناء يمثّلون أمل الأمّة !!!