الكاتب والأديب محمّد علي طه
الصّديق الشّاب أدونيس ابن الثّالثة والتّسعين عامًا (والعُقبى للمائة والعشرين مع صحّة جسديّة وعقليّة جيّدة) شاعرٌ وناقدٌ كبير، ومفكّرٌ كبير، وانسانٌ كبير، وأحد الآباء البارزين لمشروع الحداثة العربيّ، ما زال منذ عقود يحمل النّار في موقديه، قلمه وعقله، ويُشعل الحرائق في جسد التّخلّف العربيّ، الّذي ورثناه من "الإسلام" الّذي خلقه آل عثمان ودمّر صورة الإسلام، ثقافة السّلطة والإدارة والعدالة الّتي قادها الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب، وثقافة الحرّيّة والحقّ والنّبل الّتي قادها الخليفة الرّابع عليّ بن أبي طالب، وثقافة الحضارة الّتي شعّت على العالم في العصر الأمويّ فالعصر العبّاسيّ والعصر الأندلسيّ، وتركنا نعيش في جاهليّتين، واحدة تعادي العلم وأخرى تنفر من الحلم، وبقينا متمسّكين بأظافرنا وأسنانا بخمولنا وأميّتنا ومقيّدين بحبالٍ من شعر رؤوس نصف مجتمعنا الجميل الّذي حكمنا عليه باللا وجود إرضاء لذكورتنا.
زارنا، أنا وصديقي وأخي وتلميذي النّائب الوطنيّ المثّقف أيمن عودة، حيث كنّا ننزل في فندق باريسيّ متواضع، ديوانه يتّسع لخمسة أشخاص فقط، في يوميّ الجمعة والأحد 17 و19 تشرين الثّاني 2023 وقدم إلينا سائرًا على قدميه، حاملًا عقده العاشر وتواضعه الانسانيّ، مرتديًا بنطلونه الجينس، والابتسامة تمرح على محيّاه فحدثنا بمتعةٍ آسرة عن طفولته القرويّة ولقائه بالرّئيس السّوري شكري القوّتليّ، ذلك المنعطف الّذي ربطه بالحرف والكتاب، ثمّ سمعنا آراءه في مواضيع ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة. يقول بهدوء: إنّ الثّورة لا يمكن أن تخرج من مسجد.
وافقناه الرّأي بتقييمه للرّئيسين المصريّ جمال عبد النّاصر والتّونسيّ الحبيب بورقيبه واتّفقنا بأنّ الشّاعر أبا العلاء المعرّيّ صاحب "رسالة الغفران" أهمّ كثيرًا من الشّاعر الايطاليّ دانتي صاحب الكوميديا الإلهية الّا أنّ الغرب نسج هالةُ كبيرة حول دانتي في حين أنّ العرب والمسلمين قطعوا رأس المعريّ الّذي اعترف باحثون عديدون مشهورون من الغرب بأنّ المعريّ أهمّ وأعظم من دانتي ولولا "رسالة الغفران" ما كانت الكوميديا الإلهيّة، كما اتّفقنا في الرأي والموقف من الأنظمة العربيّة في حين خالفناه الرأي في شعر أحمد شوقي وشعر محمّد مهدي الجواهريّ اللذين حصرهما في خانة تقليد الشّاعرين البحتريّ والمتنبيّ كما عارضته في موقفه من الرّواية العربيّة وإصراره على أنّ الأدب العربيّ هو الشّعر فقط.
انتقل أدونيس في شبابه من قريته السّوريّة النائيّة الى دمشق ثمّ انتقل الى بيروت حيث أصدر مجلّة "مواقف" ثمّ استقرّ مع زوجته النّاقدة المعروفة خالدة سعيد في باريس منذ عقود وأمّا أنا فلم أغادر القرية الجليليّة الّتي هُجّرتُ إليها إثر النّكبة، وقد أغبطه على الحياة في المدينة حيث النّشاط الفكريّ والثقافيّ وقد أفخرُ بياسمينة البيت وزيتونة الحاكورة، ومن الطّبيعيّ أن يرى أدونيس ما لا أراه يوميًّا، وأن يشّم هواءً غير الّذي أشّمه وأن يتناول خبزًا يختلف عن رغيف الخبز الّذي أتناوله، ومن الطّبيعيّ أيضًا أن أؤيّد رفضه للواقع العربيّ والواقع الاسلاميّ اللذين تمرّد عليهما وأن أواقفه على تشخيصه الدّقيق لهذين الواقعين ولهذه الأنظمة المهترئة الّا أنّني أبحث عن الشّمعة في نهاية النّفق وعن الدّرب الّذي تنيره هذه الشّمعة الصّغيرة.
ليس مطلوبًا من قصائد مهيار الدّمشقيّ أن ترشدنا الى ذلك الدّرب الّا أنّ الثابت والمتحوّل مُلزم بذلك.
الانسان هو القضيّة الأولى وكلّ القضايا في هذا الكون خُلقت من أجله فهو أغلى قيمة في الوجود، وصورة المسلم تغيّرت كليًّا بعد الّذي حدث في أمريكا وبغداد ودمشق وفلسطين. نعم تغيّرت عن صورة المسلم في العصر الأمويّ وفي العصر العباسيّ وفي العصر الأندلسيّ فابن رشد وابن عربيّ وابن خلدون بعيدون عن اسلامنا المعاصر بُعد قريتي في الجليل عن باريس في فرنسا.
يرى أدونيس أنّ صورة المسلم تحيّر أحيانًا وتُقلق أحيانًا وفي هذا إيجابٌ في زمن يقف على رؤوس حاراتنا سجناء ثقافة القرون الوسطى وقطاريز أمريكا الّذي يسيرون ما شاءت مصلحة المستعمر الأمريكيّ اللّئيم فأمريكا هي الطّاعون والطّاعون هو أمريكا، وأمريكا هي رأس الحيّة أيضًا، ونحن متّفقان في موقفنا من هذا الطّاعون ولكنّني أرى الصّورة غير محيّرة.
أعجب من كلام أدونيس "هناك فكرٌ دينيّ يهوديّ حديث وفكر مسيحيّ دينيّ حديث".. أين هذا يا صديقي؟ هل هذا الفكر اليهوديّ الحديث يحملها مستوطنو كريات أربع وبن غفير وسموطرتش ودرعي وغافني؟ إنّ الّذي يأكل العُصيّ ليس كالّذي يعُدّها! هناك تحديثٌ للفكر الدّينيّ المسيحيّ وللفكر الدّيني اليهوديّ وهناك حركاتٌ دينيّة رجعيّة أصوليّة مسيطرة وإذا ما كنت تجد بصيصًا من النّور عند بعض حركات التّحديث عند اليهود في أمريكا فما رأيك أيضًا في تحديث الفكر الدّينيّ الاسلاميّ منذ الإمام محمّد عبده وما قدّمه هؤلاء الرّهط من المفكرّين الاسلاميّين المعاصرين الّذي جاءوا بعده وبرزوا في المشرق وفي المغرب؟ وقبل أن يسألني قارئ: هل هذا كافٍ؟ أجيبُ: طبعًا لا يكفي.
أنت ترى نصف الكأس المملوءة حينما تقول إنّ صورة المسلم تحيّر أحيانًا وتُقلق أحيانًا بينما أنا أراها واضحةٌ لا محيّرة وأراها متخلّفة ومقلقة على الرّغم من تفاؤل السّرمديّ. يؤلمني يا صديقي أنّ شعبنا العربيّ الفلسطينيّ يُذبح ستّين مرّة في الدّقيقة الواحدة، يُذبح بطرق صريحة وبطرق ماكرة، إقليميّة ودوليّة، ويؤلمني أنّ الأنظمة العربيّة تواصل تدمير هذا الشّعب الصّغير العظيم وأنّها مرتبطة مع أمّها أمريكا الّتي تسعى بكلّ وسائلها اللّئيمة لهذا الدّمار. شعبنا الفلسطينيّ يا عزيزي يدفع الثّمن الباهظ منذ ثمانية عقود ونحن نعيش قضيّة شعبنا ليل نهار، وما صغّرنا أكتافنا ولا حنينا رؤوسنا، وبقينا منغرسين في تراب الوطن ورماله مثل السّنديان والصّبار، ورفضنا التّمييز بين طفلٍ أسمر وبين طفلٍ أشقر كما رفضنا بشدّة التّمييز بين قلب امرأة عربيّة ثاكل وقلب امرأة يهوديّة ثاكل كما يدّعي السّلطان الغبيّ غباءً عنصريًّا أعمى، فكلتاهما في حزنها تماضر. ورفضنا أنّ نحمّل الله تعالى ما يجري لنا فالخالق لا يرضى أن تقتل الطائرات والصّواريخ والقنابل عشرات آلاف الأطفال. هل رأيت يا أدونيس أشلاء جثث الأطفال؟ تقول لنا أمٌ ثاكل من جباليا: "احنا بإيش وانتو بإيش؟!".
كان عنوان بيانك ساحرًا على الرّغم من أنّه ليس قصيدة من قصائد مهيار الدّمشقيّ أو ورقة من دفاتر مهيار الباريسيّ وكان عنوانه ديموقراطيا عربيًا لا يُلزم أحدًا غير صاحبه الّا أنّه يسع كي يكون الأول.
أنت مفكّر كبير وأديب وشاعر كبير وقادر على إشعال الحرائق في حقول التخلّف والخمول بل قادر على الأكثر من ذلك حينما تشرب قهوة الصّباح بهدوءٍ في بيتك الباريسيّ، وأرجو أن توافقني أن شعبنا العربيّ الّذي نحبّه ونثق به ونعتزّ بأنّنا من أبنائه يحتاج الى المفكّر الّذي يرسم له شارات المرور ويعمل على تعبيد الدّرب فاسمح لي يا عزيزي ويا صديقي الحبيب أن أوقد شرارة في موقدك يا مشعل النّيران السّرمديّ.