إذا كانت الذاكرة تشمل المكان والأشخاص والأحداث والشعور والتخيلات والأوهام، وإذا كانت الرواية هي فن السرد، فكلنا كتب نفسه، وما الرواية إلا سيرة ذاتية أو جزء منها بالمعنى الواسع للمصطلح بما يشمل فهم المجتمعات والفلسفات وعلوم النفس والاقتصاد والسياسة ما ظهر منها وما بطن، وما فات منها وما حضر، وما اختفى وما استوى، وما يمكن أن يحدث أو لا يحدث، فالكاتب نبي الزمن، وصانع رؤيتها، ومالك خزائنها، وناقد دواخلها، لا حد لفكره، لا يمنعه مانع، ولا يرى إلا ما هو نافع، وإن كتب مأساة مجتمعه، ووقف على عيوبه، وأظهر محاسنه، ونقد معتقداته، وهدم بيته، وبنى بيوتا من زجاج أو صلصال، أو حفر جبلا، وهدم معبدا، وصنع من فقير ملكا، وجعل الملك شحاذا، فنحن نرى ما لا يرون، نحن زرقاء الرواية، ونصدق ونكذب، ونجعل من الحبة قبة، ومن القبة حبة.
نحن الذين اخترعوا العجلة، عجلتنا الخاصة، وخرمنا العقول لنفكر أفضل، وننظر من تحت لفوق ومن فوق لتحت، فنحن أهل الفكر والعاملين فيه، ونعشق ونفرح ونبكي ونحزن، ونغني ونرقص ونغضب، ونقتل ونصيب، ونجرح الفولاذ، وندمي القلوب ونحن نصوغ كلماتنا، ونفلح وننتكس، فالكلمة التزام.
الذاكرة ليست ما مضى، ولا ذاكرة الحاضر، ولا الذاكرة القصيرة والمتوسطة المديين، فنحن نصنعها، نحن نبحث عنها، فلا تتعلق الكتابة بتدوين المشاعر، واللعب باللغة وحولها، فنحن ندرس ونبحث، فإذا كنا لا نستطيع أن نضيف شيئا لأنفسنا قبل غيرنا، فلم نكتب؟ الذاكرة ليست فردية، فما أنا إلا الحلقة الصغرى التي أرى فيها الناس من حولي والعالم، فكان يرفض أن يكتب الواحد بضمير الأنا في رؤية شكلية سطحية إلى أن اعتدلت.
إذا توفرت الأدوات فإن الكتابة خيار، خيار نعمل عليه، فنختار المكان والأشخاص والأحداث والمشاعر والتخيلات والزمان. خيار العمل في العقول والأنفس، خيار المعاني واللغة، خيار التغيير نحو الأفضل.
عبد الرحمن منيف كتب السجن وحكم البوادي، وحنا مينا كتب البحر والجبل، وابراهيم الكوني كتب الصحراء، والطاهر وطار كتب الثورة والثوار، وغسان كنفاني كتب البرتقال وحيفا.
كل منا له بوصلته، بوصلته ليست معزولة عن معتقداته وميوله السياسية والحزبية والدينية والمجتمعية. كل منا له عين يرى العالم من خلالها، وعين ترى ما هو واجب أن يكون، عين على الماضي والحاضر، وعين على الأجمل.
كل منا له انحيازاته، يوظف من خلالها كل معلومة تصله، حتى لو كانت غير كافية لتبرير ذاته. فعقله يغطي على أشياء قد تكون مهمة، ويبرز أشياء حتى لو كانت دون معنى. هل نستطيع تغيير الٱخرين؟ هل أستطيع تغيير نفسي؟ بالطبع نعم، إن رأيت الأمور فوق نفسي، فوق الٱخرين، إن حاولت أن أصعد إلى العلا وأرى الحركة الكلية للناس والأحداث والكون. هذا ما نحاوله في كتاباتنا في إطار تحيزاتنا لأنفسنا ضد أعدائنا.
أنا بوصلتي وطني المسلوب، بكل ما فيه، كله كله، وإن ضلوا الطريق، فوطني المتنوع جغرافيا فيه الجبل والوادي والصحراء والسهل والنهر والبحر، وفيه الأسود والأسمر والحنطي والأبيض والأشقر، وفيه المسيحي بكل طوائفه، والمسلم بكل فروعه، ومن خارج الديانات. أنا أنا، لا تضيع بوصلتي وإن ضاعوا.
أنا اخترت الرواية منذ البدايات، واخترت القرى المهجرة المدمرة مكانا، فأنا لاجئ من بيت نبالا قضاء اللد، عشت في قرية بيت اللو ١٢ سنة، وعشت في سقائف طينية وفي المخيم، وجلت في أركان القرية كابن مزارع بكل أنواعها، وعشت في المدينة والمدن القريبة والبعيدة، فكتبت عن بيت نبالا قبل النكبة ورحلة اللجوء، وعن بيت اللو في نكستتنا وحلمنا بالعودة، وزرعين، وعين التينة، وبيسان. كتبت المتخيل والأسطورة، ما ذهب منها وما هو آت، كتبت الأحلام المسروقة والعشق والصداقة والرفاقية والحب وما بينها. إن ما يشغلني في الكتابة هو الأسئلة الوجودية التي يمكن أن تحرك ما بين الأذنين وأعلاها. إن ما يشغلني هو ما أود إضافته لما كتبته من قبل، ولما كتبه غيري حيث أعلم. إن ما يشغلني هو أن أكتب روايتي الطاهرة، أصب فيها كل ذاكرتي، فتحمل اسمي وأحمل اسمها، وما زلت أحاول.
ذاكرتي ليست الذاتية التي عشتها بالمعنى الضيق، فهي ذاكرة أهلي وأهالي بلدتي والمجتمع بشكل عام، والكتب والمجلات والانترنت، واليوتيوب، وكل شيء. قابلت عشرات من كبار السن قبل أن يرحلوا، وسجلنا عديد الأشرطة، وهم يقولون، ويبكون، ويضحكون، ويغنون، ويرقصون، ومثلهم من بلدات أخرى.
زرت عشرات القرى المدمرة المهجرة، ووقفت على تفاصيل المكان والأحداث حتى صرت دليلا حتى لأبناء بعض القرى، وكان التاريخ المسجل والشفوي مصدرا آخر، وحاولت تصفيته، فأعدت قراءة الكتب السماوية وغير السماوية، ووقفت على الخلافات فيها وجوهر معانيها، وعرفت كم نحن مقصرين في سرد روايتنا، وتفاصيل الحياة قبلها، وفي إنعاش ذاكرتنا برؤية المستقبل. كان أبي لا يستطيع أن يتحدث عن بلدته إلا للبكاء أو للتندر، فحولت بعض الحكايات لرواية، وجعلت من الكوشان مركزا للحدث.
هل أستطيع أن أكتب كل شيء؟ لا طبعا، فأنا ابن بيئة خاصة كما غيري، ولا يوجد وقت طويل لتسجيل ذاكرتي، وذاكرتي ليس مغلقة وليس لها حد، ولا أود تسجيل سيرتي الذاتية بشكلها المباشر، ولا أدعي أني أعرفها، فالكتابة بوح، وأنا لست مركز العالم، بل هي بلدتي، التي ما زال الناس يعرفونني بها، وأعرف نفسي أيضا.
ولدت في رام الله، وعشت عمري كله هنا عدا سنوات الدراسة، لكن أهالي المدينتين لا يعترفون بي أني منها، فأنا من سكانها، أنا الغريب. أحببت ذلك، فبحثت عن هويتي، فأنا لست من هنا، بل أنا من هناك. فبحثت عن هناك حتى الثمالة، وسعدت بأنني استخدمت هذا المصطلح قبل نهاية القرن الماضي، ورأيت أن آخرين استخدموا مصطلحي "أنا من هناك"، رغم أن ال "هناك" لا تبعد أكثر من ساعة عن هنا، وتحول كل ال "هناك" وال "هنا" وطني.
أشعر بالرضى نوعا ما، وأنا بين ثلة من الروائيين، وإن اختلفت مواضيع كتاباتنا، ولغتنا، ومخزوننا الثقافي، وميولنا وتوجهاتنا، وذاكرتنا، ولن تنتهي الكتابة برحيلنا، فسيأت جيل آخر، يكتب ذاكرة زمانه.