لا يُعطي الكثير من المحللين أهمية كبيرة للنتائج الاقتصادية للحرب التي تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين منذ أحد عشر شهراً على الاقتصاد الإسرائيلي. فعلى الصعيد الفلسطيني، دمرت إسرائيل تدميراً شاملاً وهائلاً وواسع النطاق البنية التحتية لقطاع غزة، ويحتاج السكان هناك إلى عشرات المليارات من الدولارات لإعادة بناء البلد ولعدة سنوات لإعماره من جديد. أما على صعيد الجبهة اللبنانية، فهناك أيضاً تأثيرات ونتائج اقتصادية على المجتمع اللبناني، وخاصة على الاقتصاد اللبناني بشكل عام، ولكن بمساعدة دولية قوية من عدد من الدول العربية والشتات اللبناني يمكن أن يتم إعادة البناء من جديد بمدة قصيرة من الزمن.
كما أن حزب الله يملك اقتصاداً حربياً منفرداً، من الصعب أن يتم المس به حتى لو استمرت الحرب عدة سنوات. أما على الصعيد الإسرائيلي، فالتأثيرات والنتائج الاقتصادية مدمرة وسلبية للغاية. فقد أثبتت هذه الحرب أن ما تقوم به حماس وحزب الله يعتبر تحدياً لسيادة الدولة الإسرائيلية في مناطق واسعة من البلاد، سواء في الشمال أو الجنوب. ومن هنا، فإن العديد من الباحثين والمحللين الإسرائيليين، والذين يقولونها بشكل خفي، يرون أن هذه الحرب هي حرب وجودية على إسرائيل من الناحية الاقتصادية في حال استمرت مدة طويلة. ولا يعلم أحد بالضبط كيف يفكر نتنياهو وهل يؤمن بذلك، أم أنه ما زال يفكر بشكل كلاسيكي، حيث يتمثل في أن استمرار السيطرة على "أرض إسرائيل الكبرى" هو الحل الأمثل للدولة اليهودية حتى في هذه الظروف، ولا يهمه كثيراً العواقب الاقتصادية والاستراتيجية لهذا الصراع المستمر. وقد أثبت أنه يؤمن بشكل قاطع أن "أرض إسرائيل" تمتد من البحر إلى النهر، وليس كما يدعي أن الفلسطينيين هم من يؤمنون بذلك.
مهما يكن، وبعد ثلاثمائة وسبعة وعشرين يوماً من هذه الحرب التي تسميها إسرائيل "حرب مصيرية"، بدا ان هذه المعركة مكلفة اقتصادياً وأدت إلى تقليص وضعف الاقتصاد، وانهيار العديد من الأسس المركزية التي تبني هذا الاقتصاد ليصبح قوياً. فبعد عامين من إقامة هذه الحكومة، لم يجرؤ وزير المالية باسال ال سمودرتش على تقديم اقتراح الميزانية باسم الحكومة، ولا يعلم أحد كيف ستكون هذه الميزانية وما هي التقليصات المقترحة في كافة الخدمات والحقول في العديد من بنود هذه الميزانية. ويقول أحد رؤساء بنك إسرائيل السابقين إن حكومة نتنياهو لا تجرؤ الآن على تقديم مقترح الميزانية للكنيست للتوقيع عليها لهذا العام، لأنها تخشى من انتقادات واسعة النطاق في برامج هذه الميزانية المقلصة وبشكل جدي وخطير.
وقد بات من المؤكد أن أي ميزانية تُقدم سوف تشمل تقليصات هائلة لكافة الحقول الاقتصادية، سواء في المجالس المحلية والبلدية أو المؤسسات الحكومية الاجتماعية والتعليمية، ولا ننسى أيضاً ميزانية الجيش التي ستزداد بشكل ضخم لمواجهة التحديات العسكرية المقبلة، حيث سيحظى الجيش بقسم كبير من الميزانية للحفاظ على استنفار عسكري متواصل يمكن أن يصل إلى أكثر من ثلاثين بالمئة من نسبة الميزانية. أما التحديات التي يمكن أن تصل بالميزانية القادمة للجيش فمن المتوقع ان تصل إلى أكثر من 25 مليار دولار، والتي من الصعب تخصيصها محلياً في الواقع السياسي الذي سينجم عن الحرب.
كما أن هناك انهياراً تاماً في العديد من القطاعات الاقتصادية المختلفة الأخرى، والتي يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على تقليص واسع النطاق في ميزانية الدولة. فإذا أخذنا مثلاً القطاع الزراعي، يمكن القول إنه انهار تماماً، وقد باتت إسرائيل مرتبطة اقتصادياً بالاستيراد من دول عديدة. ففي شمال البلاد وجنوبها، حيث تتركز الحقول الزراعية وغالبية الإنتاج الزراعي، انهارت هناك عملية الزراعة نهائياً. ونظراً لتهديد حزب الله، باتت المناطق الشمالية كافة مهجورة بالكامل وهي مناطق زراعية غنية، كما أن منطقة غلاف غزة، والتي تعتبر أيضاً مصدراً وكنزاً زراعياً للدولة، أصبحت مهجورة، وأصبح من الصعب إقناع السكان بالرجوع إلى هذه المناطق للعمل والسكن فيها. وتحاول أجهزة الدولة إقناع بعض المواطنين العرب للعمل هناك، ولكن بدون أي نتائج تذكر. وقد وصلت الأمور إلى محاولة وزير الزراعة، آفي ديختر، للتواصل مع أكثر من 20 دولة لإقناعهم بجلب عمال لهذه المناطق، ولكن بدون أي جدوى حقيقية.
أما الضربة الزراعية القاضية التي تلقتها إسرائيل فكانت من تركيا، التي قطعت علاقتها الاقتصادية مع إسرائيل. وقد كلفت هذه الضربة الدبلوماسية إسرائيل أكثر من 8 مليارات دولار. وحاولت الإمارات مساعدة الاقتصاد الإسرائيلي بفتح مراكز تجارية في دبي لجلب البضائع التركية إلى هناك، ومن ثم تصديرها إلى إسرائيل عبر الحدود السعودية والأردنية. وقد أُقيمت مؤسسات اقتصادية في دبي تعنى خصيصاً لهذا الهدف، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً. وعلى الرغم من ذلك، فقد بقي سعر الخضار، وخاصة سعر البندورة في إسرائيل،الى أكثر من 20 شيكل للكيلوغرام الواحد، الأمر الذي يؤكد مدى انهيار الحقل الزراعي الإسرائيلي. وقد أدى ذلك أيضا إلى غلاء فاحش وفقدان الثقة لدى المواطن الإسرائيلي بنفسه وفي نهج حياته خلال هذه الحرب. ويعتبر إخلاء السكان من الشمال والجنوب أكبر ضربة وجهت إلى الاقتصاد الإسرائيلي، حيث كانت الحكومة تدفع لأكثر من 200 ألف مواطن دخلاً شهرياً على مدى أحد عشر شهراً، للسكن والعيش في أماكن مختلفة من البلاد. وفي مطلع شهر تموز، قررت الحكومة إيقاف هذه الدفعات وطلبت من جزء كبير من هؤلاء السكان الرجوع إلى بيوتهم في الشمال والجنوب، ولكنهم رفضوا بطبيعة الحال بسبب خطورة القتال على الجبهة في الشمال والجنوب.
ويشير جميع المحللين أيضاً إلى أن ركوداً اقتصادياً قوياً يجتاح البلاد، بعد استمرار عملية تجنيد جنود الاحتياط في أطول مدة في تاريخ إسرائيل، حيث تم حتى الآن تجنيد أكثر من 250 ألف جندي في الجبهتين الشمالية والجنوبية خلال مدة أقل من أحد عشر شهراً وزجهم في هذه الحرب.
وهنالك تأثير واسع النطاق لاستمرار التجنيد، حيث بات من الصعب إرجاعهم إلى أعمالهم المستقلة وبنائها من جديد بعد هذه المدة الطويلة وفي هذه الظروف الاقتصادية الحالية. وهناك انهيار واسع في حقل السياحة الداخلية والخارجية، وكان وزير السياحة قد صرح بأن 65 ألف عامل إسرائيلي في حقل السياحة الداخلية والخارجية قد سرحوا عن العمل في شمال البلاد في الجليل والجولان في العشرة أشهر الأخيرة، ولا ننسى العدد الأكبر من المناطق السياحية في شمال البلاد ومركزها.
وهنالك حقل آخر تضرر بشكل كبير وهو قطاع الهايتك، والذي انخفضت استثماراته بأكثر من 70 في المئة، حيث باتت البرتغال ودول أوروبية أخرى هي الوجهة الجديدة للاستثمار في الهايتك بدلاً من إسرائيل. وأوقفت العديد من الشركات الهايتك العالمية الكبرى استثماراتها في إسرائيل، والتي كان من المتوقع أن تتم في العام الأخير، ومن المؤكد أن هذا الانخفاض سوف يؤدي إلى هجرة عشرات الآلاف من العقول إلى الخارج، وخاصة إلى الولايات المتحدة.
وتتواجد إسرائيل الآن في حالة من الجمود الاستراتيجي على كافة المستويات، فهي لا تملك الحلول على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي. أما التدهور والافول الاقتصادي، فهو عامل متدحرج ولا يعلم أحدا كيف تقدم الحلول في ظل عناد الحكومة الإسرائيلية في وقت وعدم إيجاد أي حلول مؤقتة للصراع مع حماس وحزب الله.