كاتب المقال: إبراهيم عبد الله صرصور – الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني
( 1 )
هاجني للحديث حول موضوع الظلم والظالمين وطبيعة الصراع معهم ، ما نراه في هذه الفترة من انتفاش للباطل وانتشار للظلم وخصوصا في منطقتنا وبلادنا... كما دعاني لتناول هذه القضية ما نراه من حيرة تكسو وجوه حملة الحق وهم يخوضون معركة غير متوازنة ، ويواجهون تحديات لا حصر لها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، يُطْحَنون فيها بين نار الأزمات والانهيارات الاجتماعية التي تجتاح المجتمعات العربية والاسلامية فتكاد تهدها هدّا من جهة، ونار السياسات الحكومية المستبدة التي تحرص على ألا يرفع هذا المجتمع رأسه تحت وطأة القهر وتجريف الحياة واحتكار السلطة والثروة، واختزال الدولة في شخص الحاكم/نصف الاله، وغياب الإرادة الوطنية، والقرار المستقل، والحياة الديموقراطية الحقيقية العنصرية التي جعلت من الشعوب العربية والإسلامية في اغلبيتها الساحقة تلهث وراء لقمة العيش بلا أحلام ولا طموح من جهة ثانية، ووثوب اعداء الامة على مقدراتها واوطانها ومقدساتها وفي قلبها فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المبارك، حتى ما عاد لها مكان ذو ثقل في موازين السياسة والحضارة والمدنية من جهة ثالثة.
في هذه الأجواء قد تتسرب للقلب بعض الشبهات والشكوك ، وقد يتسلل لعالم القناعات بعض اليأس أو القنوط ، فرأيت من واجبي التذكير ببعض الأبجديات ، لكنها الزاد الذي نحتاجه لمواجهة الغد ...
( 2 )
ملأت ملفات الظالمين أرشيفات التاريخ ، تماما كما ملأت فظائعهم أرجاء الأرض وفضاءات العالمين .. نقلب صفحات تاريخ الإنسانية الطويل فنرى أغلبتها صبغ بالدم ، وأخْتُزِنَ بالآلام وَتَشَبَّعَ بالمآسي والآثام ، حتى نكاد نلمس أرواح المصلحين من الرسل والنبيين والسادة النجباء الصديقين والصالحين تشعر بالوحشة في هذه الأجواء الملبدة بران الشهوات والمثقلة بأحمال الشقاوات والنزوات .
لقد جاء تهديد الله سبحانه وتعالى ووعيده للظالمين قاطعا مانعا ، صريحا وواضحا إلى درجة وضع الله سبحانه وهو العلي العظيم ذاته العلية في مقام المطالبة بإجتناب الظلم وتحريمه عليها في قوله سبحانه فيما يرويه عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي : ( يا عبادي إي حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا .. )
وكذلك قوله سبحانه في سورة إبراهيم : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء . )
لقد كان الظلم وما يزال سببا لهلاك أهله والساكتين عليه ، والأصل في ذلك أن الله لا يُهْلِك أمة ظلما ولا بغير نذير وتحذير ، ذلك أن الله سبحانه هو العدل ، ولذلك جاءت الإشارة إلى ذلك واضحة في قوله تعلى : ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون )...
فالانحراف بهذا المعنى هو الموجب لنزول عذاب الله وعقابه الذي لا يُفَرِّقُ الله فيه بين ظالم وظالم .. فالظلم هو الظلم والظالم هو الظالم ، مهما كان انتماؤه والى أي أصل كان انتسابه ...
الظلم سبب للهلاك ، كما أن الطغيان سبب لزوال نعمة الأمن سواء كان سياسيا أو عسكريا أو إقتصاديا أو إجتماعيا ... لذا جاءت إشارة القرآن العظيم إلى ذالك عاصفة تهز كيان الظالمين وتُطَمْئِنُ قلوب المظلومين . قال سبحانه : ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ) وقال : (فكأيِّن من قرية أهلكناها وهي ظالمة ، فهي خاوية على عروشها )، وقال : ( وتلك القرى أهلكناها لما ظلموا ، وجعلنا لمهلكهم موعدا ) وقال: ( وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل كانوا هم أظلم وأطغى )، وقال: ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم اشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل محيص )، وقال : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ، فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)...
( 3 )
إذا كان الظلم بحد ذاته سببا للهلال والدمار وزوال النعمة ومستلزما للتغيير والتبديل، فإن السكوت عن الظلم وعدم العمل على إزالته بكل الوسائل المتاحة ، ناهيك عن الرضا به ومساندة أهله ، هو كذلك سبب مباشر لذات النتيجة البائسة ... السكوت عن قول الحق ، وموالاة الظالمين ومظاهرتهم ، ومعاداة المؤمنين ، مجلبة لغضب الرَّب سبحانه وسبب في نزول سخطه ...
يقول تعالى : ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، إلا قليلا ممن نجينا ، وأتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين . وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها مصلحين)، ويقول : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ، قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور )، ويقول: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه ، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)...
كما أن الظالم واقع في دائرة الغضب ، وَمُعَرَّضٌ إلى أخذ الله فلا يفلت بعدها وإن أملى الله له، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ليملي للظالم ، فإذا أخذه لم يفلته) ... إذا كان هذا حال الظالم مهما كان مسلماً أو كافراً ، فإن المظلوم واقع في دائرة النصرة ، مهما كان مسلماً أو كافراً ، فقد روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال :( اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً، فأنه ليس دونها حجاب)... وقد ورد في حديث قدسي أن الله سبحانه وتعالى حينما يرى عبده المظلوم ليس له من يعينه إلا الله ، يقسم بذاته الصلبة : ( وعزتي وجلالي لأَنصرنك ولو بعد حين).. فماذا بقي للظالم بعد ذلك، وماذا لم يبق للمظلوم بعد ذلك ؟؟!!
( 4 )
روى العقد الفريد عن مالك بن أنس قال: ( بعث أبو جعفر المنصور إليّ وإلى إبن طاووس ، فأتيناه فدخلنا عليه، فإذا به جالس على فرش قد نُضدّت ، وبين يديه أنطاع قد بسطت وجلاوزة بأيديهم السيوف ، فأومأ إلينا أن أجلسا ، فجلسنا . فأطرق رأسه قليلاً ثم رفع رأسه وقال لأبن طاووس : حدثني عن أبيك ، قال : نعم ، سمعت أبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه ، فأدخل عليه الجور في عدله . فأمسك ساعة ، قال مالك : فضممت ثيابي مخافة أن يملأني من دمه ، ثم ألتفت إليه أبو جعفر وقال : عظني . قال : نعم ، إن الله تعالى يقول :" ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصّب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبر المرصاد " . فأمسك المنصور ساعة حتى أسود ما بيننا وبينه ، ثم قال : يا طاووس ، ناولني هذه الدواة . فأمسك عنه ، فقال : ما يمنعك أن تناولينها ؟ قال : أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها )...
يا الله ..
ماذا لو أن أهل الحق في كل زمان ومكان وقفوا في وجه الباطل بهذه الصورة الزاهية، ولو أن الناس انحازوا إلى العدل في مواجهة الظلم بهذه الكيفية الرائعة ؟؟!!! ما كان الظالمون ليعتدوا على أحد أبداً ...
فكيف نحن اليوم ، وحالنا لا يخفى على أحد .. فالظلم قد طَمَّ وعَمّ، وتجاوز الظالمون المدى ... ظالمون كبار على مستوى دول وإمبراطوريات، وظالمون صغار في مواقعهم الصغيرة في القرى والمدن والضياع والمؤسسات ، يربط بينهم هذا الخيط الرهيب .. خيط الظلم .. ينتظرون القصاص العادل من الله في الدنيا والآخرة..
أما المظلومون فمدعُوّون إلى رفع عقيرتهم، ودفع الظلم عن أنفسهم وإلى سحق الظالمين ، فما أضعفهم وما أهونهم على الله رب العالمين ...