الشيخ صفوت فريج- رئيس الحركة الإسلاميّة في الداخل الفلسطيني
التاريخ يُدرس ويُقرأ ليس للتسلية وللحكايات، وإنّما للاعتبار وتعلّم الدروس واستخلاص العبر..
يذكر المؤرّخ والخطيب سبط -حفيد- ابن الجوزي في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" عن يوم تسليم القدس والأقصى للفرنج في يومٍ هزّ قلوب المسلمين، فيقول: "وصلت الأخبار بتسليم القدس إلى الفرنج، فقامت القيامة في جميع بلاد الإسلام، واشتدّت العظائم وأقيمت المآتم.. ورأيتُ في جملة الديانة الحميّة للإسلام.. فجلستُ بجامع دمشق.. وكان يومًا مشهودًا لم يتخلّف من أهل دمشق أحد، وكان من جملة الكلام: انقطعَتْ عن البيت المقدّس وفودُ الزائرين، يا وحشة المجاورين، كم كان لهم في تلك الأماكن من ركعة، كم جَرت لهم على تلك المساكن من دمعة، تالله لو صارت عيونهم عيونًا لما وفّت، ولو تقطّعت قلوبهم أسفًا لما أسفت، أحسن الله عزاء المؤمنين، يا خجلة ملوك المسلمين، لمثل هذه الحادثة تُسكبُ العبرات، لمثلها تنقطع القلوب من الزفرات، لمثلها تعظمُ الحسرات".
قد شابه يومُنا أمسَنا في كثير. أمّا "خجلة الملوك" فهي باقية لا تزال، فقط تتجدّد الأسماء وتتبدّل العباءات. وأمّا "الحميّة للإسلام"، فهي أيضًا باقية لا تزال، وأظّنها -وبعض الظنّ ليس إثمًا- أنّها أشدّ ممّا كانت عليه آنذاك. وأمّا الفرنج، فقد تبدّلوا بمن هم أحرص منهم على الحروب وإشعال الفتن والاعتداء ومصادرة الحقوق ونهب الخيرات، أولئك هم زعران المستوطنين والتلال، بعضهم اتُّهم بالإرهاب وأصبحوا بعدها يتقلّدون مناصب عليا رفيعة جرّت علينا المصائب.
رغم هذا كلّه، نؤكّد على أنّ السنن الكونيّة ستعمل وفق قواعدها المحددة، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، فالأقصى بإذن الله سيظلّ إسلاميًّا، بكلّ ذرّة من ذرّات ترابه، من أدناه إلى أقصاه، ومن أرضه إلى عليائه، حقًّا خالصًا للمسلمين، لا ريب في ذلك ولا حوار ولا مقايضة.
ولسنا ندّعي هذا الحقّ جزافًا أو اعتباطًا، بل هو حقٌّ ثابتٌ راسخ، مستمدّ من عقيدتنا وقرآننا الخالد، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}، تكريم قرآنيّ إلهيّ جعل من الأقصى عقيدةً في قلوبنا، يُلزمنا الحفاظَ عليه حتى آخر رمقٍ فينا. كما شرّفه رسولُنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، حين أسري به إليه وصلّى على ترابه إمامًا بالأنبياء، ممّا يجعل من الأقصى وقفًا إسلاميًّا، لا خير فينا ولا دين إن تنازلنا عن ذرّةٍ من هذا الوقف، اليوم وغدًا وإلى يوم يُبعثون.
إنّه لشرف عظيم لنا نحن أهل هذه الأرض المباركة، أن نكون خطّ الدفاع الأوّل عن الأقصى المبارك، نعمّره بقوافلنا ونشدّ الرحال إليه يوميًّا. وفي كلّ خطوة إلى هناك نعزّز صمود أهلنا في القدس وأكنافها، من خلال تعزيز الاقتصاد المقدسيّ بكلّ ما أوتينا إلى ذلك من قوّة وسبيل. نعتكف في رحابه، نرابط في باحاته، ونناضل بكلّ الوسائل القانونيّة المتاحة لنصدّ أوباش المقتحمين المدنّسين، بوعيٍ تامّ ومسؤوليّة كاملة، وبكلّ عزّة وصمود وإباء.
يُعدّ المسجد الأقصى المبارك لوحة فنّيّة معماريّة تبهر أعين الناظرين وتسرّ أرواح المؤمنين، وتظلّ قبّة الصخرة المذهّبة رمزًا يعكس، من جهة جماليّةَ المكان، ومن جهة أخرى شوكةً في عيون الحاقدين الكارهين لهذا المسجد وأهله. كما يجسّد هذا الصرح العظيم أحد أعظم الرموز الدينيّة في الإسلام، وله مكانة خاصّة في قلوب المسلمين حول العالم، ويكون دعمه والدفاع عنه مسؤوليّةً جماعيّة تقع على عاتق كلّ من يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله.
تحمل مدينة القدس في طيّاتها معاني القداسة الّتي ما كانت لتكون لوما الإسراء والمعراج، ولوما الأقصى والصخرة، جوهرتان متلألئتان في سماء القدس، تشعّان نورًا يزيّن هذه المدينة المقدّسة، ويُذهل جمالهما المعماري الفنّيّ عقول الوافدين، فتستقرّ في القلوب هيبة، وتخشع الأرواح أمام عظمة ما تحملانه من تاريخ وإيمانيّات وروحانيّات. قبّة صفراء ساطعة، تجذب الأنظار من كلّ صوب، تتحدّى بحضورها الزاهي كلّ محاولات التدنيس والنيل من قدسيّة المكان، تظلّ رمزًا للإباء والرفعة، تثير غيظ الحاقدين الطامعين. نورًا يشعّ، ولسان الحال يقول: نور الحقيقة أقوى من عتمة الظلم والتزييف والبهتان، مهما طغى الطغاة وتجبّروا.
"لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة.." ومنها مسجدنا الأقصى المبارك، فهل يظنّ عاقل رغم كلّ التحدّيات الأمنيّة والسياسيّة، ورغم الارتفاع الحادّ في وتيرة الاقتحامات، ورغم الدعم الحكومي غير المسبوق، ورغم النداءات الحاقدة الرسميّة وغير الرسميّة لتغيير معالم المكان هناك، ورغم الدعم المادّي والعددي من جمعيّات يمينيّة متطرّفة، محلّيّة ودوليّة، ورغم انشغالنا كمجتمع بمآسينا من عنف وجريمة وفقر وضيق، وكشعب بكلّ ما يعانيه أهلنا في غزّة، أننا نترك مسرى نبيّنا؟ فإنّ شدّ الرحال إلى هناك واجب على كلّ المسلمين في كلّ مكان، وهو علينا نحن مسلمي الداخل الفلسطيني أوجب، واجب متأصّل بهدف التمكين والتعزيز والرباط، واجب غير مؤقّت ولا مرحليّ، لا يرتبط بأزمة أو تصريح أو مناسبة، واجب دائم داعم ثابت مستدام، على مدار الأيّام من كلّ عام. هذا ليس مجرّد واجب ديني، بل هو مسؤوليّة جماعيّة تستلزم منّا نحن جميعًا عهدًا والتزامًا، من خلال تقديم الدعم المادّي والسياسي والثقافي والديني والقومي والوطني، بما يُتيح للمسلمين أن يُسهِموا في الحفاظ على هذا المعلم الديني العظيم، وضمان حمايته للأجيال القادمة.
حبّ الأقصى ليس شعارًا نرفعه، ولا مهرجانًا نقيمه، ولا وسيلة نستخدمها، بل هو عقيدة نعاهد الله أن نلتزم بها، مهما تبدّلت الظروف وتغيّرت الأيام. هذا ما ورثناه من أهلنا وقياداتنا، وهذا ما نورّثه لأبنائنا وشبابنا، وعلى هذا نعاهد.