هما شيخان مُسنّان، لكنهما شابان في الفكرة والحلم
وصلا إلى ما وصلا إليه من عمر متقدّم بعد رحلة حياتية قضياها معا لم يفترقا إلا حين هاجر أحدهما إلى الخارج بادعاء البحث عن الحياة المفقودة في البلاد
وهو ما وتّر الجوّ بينهما، ففي حين أكد مَن بقي في البلاد أنه رأى الدنيا فيها، فقد أصرّ الآخر على أنه رأى ما لم يره صديقه
لذا أيضًا كانا شديدي الاتفاق وفي الآن ذاته كانا شديدي الاختلاف، وبعيدًا عن المحبة وركوب نجم أحدهما على نجم الآخر، فقد كان كلّ منهما، مع تفاوت في المستوى والدرجة، يرى أنه هو المُحقّ
كان هذان الشيخان المسنّان الشابان قلبًا وروحًا، وهو أمر غريب آخر مُتقاربي الاسم الشكل الطول والعرض
فقد اتفقا في كلّ شيء واختلفا، وهو الامر الغريب مرة أخرى، ولم يكن اسماهما كما شكلاهما غريبًا عن الآخر فقد دُعي مَن هاجر منهما وعاد بعد نحو العقد من البُعد باسم نادر فيما دُعي صديقه اللدود باسم ندير
لحظة وقعت أحداث هذه القصة، لم تبتعد كثيرًا عن خلافاتهما واتفاقاتهما التاريخية، بقدر ما اقتربت
هكذا ابتدأت عندما قطع الاثنان مسافات طويلة في رحلة أطلقا عليها اسم رحلة التنقيب والبحث، التوتر والقلق
وقد توقّف الاثنان على مرتفع تظهر منه قمم الجبال الثلاثة الراسيات قبالتهما
وجرى بينهما الحدث التالي:
نادر: ما أبعد هذه الجبال
الجبل الثالث بعيد
بعيد جدًا
ندير ساخرًا: ما رأيك أن نبدأ السير وان نمتحن بذلك شيخوختنا
فاذا وصلنا إلى ذاك الجبل البعيد
هنا قاطعه صديقه الشيخ نادر قائلًا: اسكت يا ختيار
الجبل الثالث بعيد حًقا إلا أنه قريب في رأيي
فرد ندير: ما أبعد ذاك الجبل
أعتقد أنه مِن الصعب علينا تجاوز هذين الجبلين والوصول إلى تلك القمة الثالثة العالية
هكذا مضى الحديث بين الاثنين إلى أن لمعت عينا ندير متحديًا: هل تراهن على أنه بإمكاننا أن نصل إلى تلك القمة؟
ركب شيطان السفر القديم راس نادر فردّ بأنفة وشمَم: أراهن أيها الشيخ العجوز
تمتم ندير قائلًا : سترى مَن الشيخ العجوز بيننا
مَن هاجر أم مَن بقي؟
انطلق الاثنان صاعدين الجبل الأول بهمّة أطفال وقوة شباب، وراحا يصعدان الجبل الأول
كان صعودهما صعبًا على نادر سهلًا على ندير
غير أن الاثنين أخفيا مشاعرهما
ولاح في عينيّ كلّ منهما الإصرار على كسب الرهان، فإذا ما عجزا خسر نادر وإذا ما واصلا ربح ندير
وهنا تعقدّت الأمور وبدت لكلّ منهما في غاية التعقيد، فماذا يفعل نادر إزاء إصرار ندير؟
وانطلاقته الشبابية
المندفعة اندفاعة سهم عرف هدفه وانطلق باتجاهه
ما إن دنا الاثنان من قمة الجبل الأول حتى هنف نادر بصديقه ندير محاولًا مداعبته وخداعه
ألم تتعب يا ختيار
قلت لك انك انت الختيار
كلا لم أتعب
هيّا بنا نحن نقترب من القمة
ومضى الشيخان احدهما/ نادر يحاول أن يفتّ في عضد الآخر/ ندير، فيما انطلق ندير عاشق البلاد ومحبّ جبالها يغذّ الصعود
عندما وصل الاثنان قمّة الجبل الأول كان المساء قد بدأ بالهبوط، ومع هبوط المساء راح الاثنان يهبطان الجبل الأول مُتنقليَن من سفح إلى مُنحدر
في الناحية الأخرى من اسفل ذاك الجبل توقّف الاثنان، وفي بال كلّ منهما فكرة واحدة تلحّ عليه، مفادها كيف أفوز بالرهان؟
ندير يُريد أن يواصل وفي خاطره تلقين صديقه درسًا في التعلّق بارض الوطن جبالًا وسهولًا، ونادر يحاول أن يعرقل المسيرة أملًا ورغبة في اقناع صديقه بأن الهجرة افضل وأن تلك البلاد التي قضى فيها قُرابة العقد من الزمان أفضل من بلاده الجاحدة الناكرة للمحبة
وهنا لمعت في خاطر نادر فكرة ما لبث أن ابتدأ بتنفيذها، أرسل نظره إلى أعلى الجبل الثاني، ابتسم وغرس عينيه في عيني صديقه ندير، قال:
-اسمع
صحيح أننا تراهنا لكننا لم نحدّد المكافاة لمن يفوز
بدا أن ندير فهم ما رمى إليه زميله فقال مِن توّه:
-المُكافأة واضحة فإذا ما فزت أنا بيقينا في بلادنا وتوقّفت عن مديح أهالي تلك البلاد التي سحرتك واخذتك منّا
حتى انطبق عليك المثل القائل "غاب يوم وليلة ورجع يسأل وين باب الدار"
قبل أن يواصل ندير قاطعه نادر:
-وإذا فزت أنا وعجزنا عن الوصول إلى الجبل الثالث ذاك الصعب البعيد
وهو ما أراه رأي العين
وافقت حضرتك ورافقتني في قضاء ما تبقى لدينا من محبة وعمر
في تلك البلاد اللي ما تتسمّى كما تدعي
ابتسم ندير ولمعت عيناه كما لم تلمعا من قبل
خرج منه ذاك الشاب المُحبّ لبلاده المتيّم بمياهها الطيبة الرقراقة وجبالها الراسية العالية
مدّ يدَه إلى يد صديقه التائه المشاكس، فاضطر هذا لأن يمسك بيده الممدودة اليه
وابتدأ الاثنان في صعود الجبل الثاني، وفي عينيّ كلّ منهما حلم وأمل
نادر يريد أن يُقنع نديره بالموافقة على مغادرة البلاد ضمن هجرة أبدية هذه المرّة وتليق بشيخين متفقين ومختلفين في ذات الوقت، فيما يحاول ندير أن يُقنعه بأن أرض الآباء والاجداد إنما هي جنّة الله على الأرض ولا بديل لها مهما حفلت جنة تلك البلاد البعيدة بالأشجار
الرياحين الاثمار والنساء أيضًا
بين هذا العزم وذاك الإحباط المرغوب به انطلق الاثنان أحدهما يشدّ الآخر إلى الوراء والآخر يشد قبيله إلى الامام
عندما وصل الاثنان إلى أسفل الجبل الثالث كان التعب قد أخذ مأخذًا جديًا في جسدي كلّ مِن الصديقين المتفقيَن المختلفين، ولمّا كان نادر راغبًا في تلك البلاد البعيدة، كان ندير مندفعًا برغبة جنونية هائلة في كسب الرهان وإقناع نادر، بأنّه لا بلاد لنا في هذه الدنيا الفانية، إلا بلادنا واننا مهما اندمجنا في بلدان أخرى وأناس آخرين فإننا سنبقى الغرباء
ولما كان ندير يتّصف بكلّ هذه الصفات
يضاف إليها أنه سبق وتمرّن على صعود جباله ومعانقة اتراحها قبل أفراحها
فقد شدّ منطلقًا إلى الامام
هكذا بات من الواضح أن ندير ابن البلاد الباقي فيها المتشبّث بشمسها وترابها هو مَن سيفوز في الرهان، وهنا دوّر نادر في ذهنه ما يحدث في الآن واللحظة وما يمكن أن يحدث بعد الرهان، ومرة أخرى لمعت في ذهنه فكرة جهنّمية " كيف لم تخطر على بالي تلك الفكرة منذ البداية"،
ابتدأ نادر بالتراخي
وعندما وصل منحدر الجبل الثالث
أبلغ جسده ما نوى عليه من تراخ
وتهاوى كما تتهاوى أوراق الخريف عن أشجار البلاد
ولم يتوقّف جسده المتهاوي إلا في أسفل الجبل
بدا أن ندير أدرك ما انتوى صديقه نادر فعله
وتصوّر نفسه غريبًا في تلك البلاد البعيدة الغريبة
فدبّ في أوصاله العزم
الإصرار والمثابرة
وقفز
قفزة بطل احتوى بين جانحيه عزائم كلّ ما ظهر من بطولات في بلاده
رفع جسد صديقه المُراهن المحتال، رفعه شاهرًا إياه إلى أعلى ما يمكن وأنزله رويدًا رويدًا حتى جعله يستقر على كتفه و
مضى صاعدًا به الجبل بخطى متعبة
لكن ثابتة، عارفة ومدركة ما تنفذ وتفعل