قراءة نقدية لكتاب أحمد أمارة: "ديار بئر السبع: جنوب فلسطين العثماني"
يُعدّ كتاب "ديار بئر السبع: جنوب فلسطين العثماني - الأرض والمجتمع والدولة" للباحث د. أحمد أمارة، الذي صدر مؤخرًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إضافة أكاديمية بارزة في دراسة التحولات التي شهدها جنوب فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. يتناول أمارة في هذا الكتاب الفترة التي سعت فيها الدولة العثمانية إلى تعزيز سلطتها وتوسيع حكمها المركزي على المجتمعات العشائرية في المنطقة، مُظهرًا أبرز ملامح سياساتها وتدخلاتها من خلال تأسيس مدينة بئر السبع عام 1899 كمركز إداري مستقل مخصص لشؤون العشائر. وهو ما يعكس التوجه العثماني نحو إعادة هيكلة العلاقة مع السكان المحليين وترسيخ نفوذها في تلك المنطقة.
يتابع الكتاب مسار السياسات العثمانية عبر تفكيك مصطلح "النقب"، الذي اعتبره أمارة جزءًا من الرواية الصهيونية التي سعت إلى إعادة تصوّر المنطقة وتاريخها. ويقدم الكتاب سردًا تاريخيًا غنيًا يعرض الرؤية العثمانية للأرض والسكان، ويكشف دور الإدارة العثمانية في تشكيل النظام القضائي في ديار بئر السبع وتطوره تحت مختلف الإدارات العثمانية. كما يركز الباحث على نظامي الأرض والملكية، موضحًا كيف تداخلت السلطة مع رأس المال، مما يجعل الكتاب مساهمة نوعية في إعادة قراءة تاريخ جنوب فلسطين بعيدًا عن التصورات الاستعمارية السائدة كمنطقة قاحلة يسكنها البدو الرحّل!!
في سياق مواجهة الروايات المغلوطة، يُسلّط أمارة الضوء على التوجهات البحثية التي هيمنت حتى ثمانينيات القرن العشرين، حيث تصوّرت القبائل ككيانات ثابتة وغير قابلة للتغيير. من خلال تحليله النقدي، يظهر أمارة كيف كانت دراسة المجتمعات العشائرية ترتبط غالبًا بمفاهيم مثل "الرعي" و"الترحال" و"القبلية" او كمجتمعات منعزلة، وهي تصورات كانت تحد من فهم ديناميكيات التفاعل بين الدولة والمجتمع العشائري. وفي هذا الإطار، يقدم الكتاب رؤية تاريخية ديناميكية توضح التغيرات المستمرة التي طرأت على هذه العلاقة بفعل التحولات السياسية والاقتصادية.
يكتسب هذا الكتاب أهمية خاصة في ظل ندرة الأبحاث التي تتناول سياسات الأرض والملكية في العهد العثماني، وهي مسألة بالغة الأهمية لفهم تاريخ فلسطين وحاضرها. كما يمثل الكتاب إضافة معرفية قيمة تسهم في النقاش العلمي حول علاقة الدولة العثمانية بالمجتمعات العشائرية في فلسطين.
ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب هو الدور المركزي الذي لعبته غزة في التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدها جنوب فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويشير أمارة إلى أن غزة كانت نقطة ارتكاز للسياسات العثمانية تجاه المجتمعات العشائرية في جنوب فلسطين، ويؤكد أنه لا يمكن فهم تاريخ بئر السبع دون التطرق إلى غزة والخليل، فضلًا عن مناطق أخرى مثل سيناء وشرق الأردن.
وفي سياق دور غزة في الإدارة العثمانية، يوضح الكاتب كيف كانت المدينة مركزًا تجاريًا ومجتمعيًا رئيسيًا في إدارة شؤون القبائل البدوية في جنوب فلسطين. كانت غزة نقطة ارتكاز لفرض السياسات العثمانية من خلال التعيينات الإدارية وتنظيم الأراضي والضرائب، بالإضافة إلى دورها كمركز تجاري حيوي يربط بين الشام ومصر والمجتمعات العشائرية في المنطقة، حيث كان يتم تصدير نحو 60 طن من شعير وقمح جنوب فلسطين ميناء غزة مع بداية القرن العشرين. من خلال هذه التحولات، يبرز الكتاب كيف أن تأسيس بئر السبع عام 1899 لم يُلغِ مكانة غزة كمركز اقتصادي مهم، بل أعاد هيكلة الشبكات الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.
ولا يغفل الباحث أمارة عن إبراز العلاقات القوية بين بئر السبع والخليل وغزة وسيناء، التي أسست لشبكات عبر الحدود المختلفة. هذه العلاقات والروابط التاريخية كانت قوية إلى درجة أنها أصبحت تُذكر في أغاني الحنين والفلكلور المحلي بين بدو بئر السبع وفي أعراسهم، مثل تلك التي تقول: "يحرم عليي لبس منديل العزة على إلي انقتلوا شهدا بغزة..."
هذا الحضور الواضح لغزة، كما يوضح الكتاب، يُسلط الضوء على أهميتها في إعادة تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي في المنطقة، ويشجع على إعادة التفكير في موقعها ضمن السرديات التاريخية التقليدية التي غالبًا ما تهمش دورها في تاريخ فلسطين العثماني.
يمثل هذا الكتاب جهدًا أكاديميًا متميزًا يُضاف إلى رصيد د. أحمد أمارة العلمي، ويُسهم في إعادة التفكير في تاريخ جنوب فلسطين العثماني، حيث لا تتوفر أي أبحاث للفترة العثمانية المتأخرة عن نصف فلسطين الجنوبي والذي تم تهميشه بدراسة فلسطين. إن أسلوبه السلس والمتعمق يجعل الكتاب مرجعًا مهمًا للباحثين والمختصين في التاريخ العثماني والفلسطيني وللجمهور العام كذلك. في الختام، لا يسعني إلا أن أبارك للصديق العزيز الدكتور أحمد أمارة على هذا الجهد والإنجاز النوعي في إنتاجه العلمي والمعرفي الرفيع، وأقدر له إهداءه الثمين لي ومنحه الثقة لإجراء قراءة نقدية لكتابه الجديد الذي يقدمه لنا بأسلوبه الممتع والبعيد عن التعقيد.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد:
مجموعة تلجرام >>
t.me/alarabemergency
للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >>
bit.ly/3AG8ibK
تابع كل العرب عبر انستجرام >>
t.me/alarabemergency