هل تبقى سوريا تنهشها طائفية إيران ومصالح إسرائيل في استمرار الفوضى؟
ساهر غزاوي
منذ اللحظة الأولى لتحرر سوريا من قبضة نظام آل الأسد، كان واضحًا أن طريق استعادة العافية والسيادة لن يكون سهلًا، بل محفوفًا بعقبات داخلية وخارجية لا تريد لسوريا أن تنهض من جديد. فالدولة التي أنهكتها سنوات من القمع والحرب، وجردتها الطغمة الحاكمة من هويتها وتاريخها، وجدت نفسها في مهب قوى إقليمية ودولية توحدها غاية واحدة: ألا تقوم لسوريا قائمة كدولة موحدة ذات سيادة.
في طليعة هذه القوى تقف إيران وإسرائيل، خصمان في الظاهر، لكنهما يتقاطعان في الجوهر حين يتعلق الأمر بسوريا. فكلاهما، شأنهما في ذلك شأن نظام الأسد، يحرصان على إبقاء سوريا دولة هشة وممزقة، محرومة من مشروعها الوطني، ومغلقة أمام أي أفق جامع للسوريين. لم تكن سوريا، في ظل حكم الأسد، دولة مؤسسات ومواطنة، بل رهينة لنظام فردي قمعي صادر تاريخها وعمقها الحضاري، وبدد خيراتها لحساب شبكات الولاء والطائفية، مما عطل قدرتها على توظيف مواردها والاستفادة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي.
ومنذ انطلاقة الثورة عام 2011، سارعت إيران إلى التدخل العسكري والسياسي لصالح النظام، لكن هذا التدخل لم يكن مجرد تحالف تقليدي، بل انخرط في مشروع طائفي أوسع يهدف إلى إعادة تشكيل البنية السكانية والسياسية للمنطقة. بدأت طهران بمستشارين عسكريين، ثم سرعان ما دفعت بميليشيات طائفية من العراق ولبنان وأفغانستان، تحت غطاء شعارات "حماية المراقد" و"مكافحة الإرهاب"، لتبرير تغلغلها العسكري والمجتمعي. غير أن أخطر ما فعلته إيران هو تفكيك النسيج الاجتماعي السوري، وتعميق الانقسامات الطائفية، وإغراق البلاد في صراعات عبثية أطاحت بأي أمل في بناء مشروع وطني مستقل، متحرر من هيمنة القوى الخارجية وتغلغلها في مؤسسات الدولة.
وبعد تحرير سوريا في أواخر عام 2024، لم تتراجع إيران، بل كثفت من محاولاتها للإبقاء على نفوذها، مستخدمة أدواتها وميليشياتها المرتبطة بالنظام السابق، ولا سيّما في مناطق مثل درعا، لخلق حالة من الفوضى الأمنية المستدامة، وللضغط عبر الحشد الطائفي على القوى الصاعدة. وتستمر طهران في اعتبار سوريا جزءًا من فضائها الحيوي ضمن مشروع "الهلال الشيعي"، وترى في خسارتها هناك ضربة استراتيجية كبرى. لذلك، لا تزال تعبث بالمشهد السوري من خلال وكلائها، وتستغل الأراضي العراقية كقاعدة خلفية لإعادة تسخين الجبهة السورية كلما اقتضت الضرورة، في تجاهل متعمد للواقع الجديد، وفي خطاب لا يزال مهووسًا بفكرة النفوذ رغم تقهقره ميدانيًا وسياسيًا.
وعلى الضفة الأخرى، لم تُخفِ إسرائيل نواياها يومًا. فتصريح وزير ماليتها، بتسلئيل سموتريتش، بأن "إسرائيل تريد لسوريا أن تخرج من الحرب مفتتة ومقسمة"، ليس رأيًا فرديًا، بل يمثل الموقف الاستراتيجي للمؤسسة الإسرائيلية. فقد رأت تل أبيب في سقوط النظام فرصة لإعادة رسم الخريطة السورية على مقاس مصالحها، فصعدت من هجماتها الجوية، واستثمرت بكثافة في ورقة "الأقليات"، وفي مقدمتهم الطائفة الدرزية.
وتحت غطاء "حماية الدروز"، قدمت نفسها كضامن أمني، رغم الرفض العارم من قبل الغالبية الساحقة من دروز سوريا لأي تدخل إسرائيلي. إلا أن ذلك لم يمنع بعض الجهات الدرزية داخل إسرائيل من اقتحام الشريط الحدودي دعمًا لدروز سوريا، في مشهد خطير جرى تحت أنظار الجيش الإسرائيلي. كما صرح وزير الأمن يسرائيل كاتس بأن إسرائيل استهدفت مجموعة كانت "تخطط لمهاجمة الدروز" جنوب دمشق، في محاولة واضحة لتوظيف الطائفة كورقة تدخل عسكري مستدام. أكثر من ذلك، بحثت قيادة الطائفة الدرزية في شمال إسرائيل مع الجهات الأمنية إمكانية إسقاط عتاد عسكري جوًا لدعم دروز صحنايا، كما تم طرح فكرة تجنيد كتيبة درزية للتدخل داخل سوريا، ما يفتح الباب أمام تدويل داخلي متستر خلف قناع "النجدة الطائفية".
هذا النهج لا يقتصر على الطائفة الدرزية. فقد حاولت إسرائيل، بدرجات متفاوتة، استمالة أقليات أخرى كالأكراد والعلويين، ضمن خطة أوسع لتفكيك الهوية الوطنية السورية وتحويل المجتمعات إلى كيانات قابلة للتحالف أو التعايش مع المشروع الإسرائيلي. فالخطاب الذي يُسوق نفسه كـ"حماية للأقليات"، ما هو في حقيقته إلا أداة استراتيجية لتعميق الشرخ المجتمعي السوري، ولتأمين بيئة مجزأة تخدم الأجندة الأمنية لتل أبيب.
في النتيجة، تقف سوريا اليوم على مفترق طرق حاسم، بين مشروعين تخريبيين لا يقل أحدهما خطورة عن الآخر. إيران تسعى إلى فرض وصايتها الطائفية على ما تبقى من سوريا عبر الوكلاء، فيما تسعى إسرائيل إلى تحويل هذه الأرض إلى فسيفساء من الطوائف المتناحرة، تضمن لها أمن الحدود وتمنع قيام دولة مركزية قوية في الجوار. وإذا لم تنتبه القوى الوطنية السورية لهذه المخاطر المتقاطعة، فقد تجد نفسها وقد تخلصت من نظام الأسد، لكنها لم تتحرر من مشاريع الهيمنة الخارجية التي لا ترى في سوريا سوى ساحة صراع دائمة، ولا ترى في السوريين سوى أدوات لخدمة أجندات الآخرين.
كلا المشروعين، الإيراني والإسرائيلي، يستفيدان من استمرار غياب الدولة، ومن هشاشة المرحلة الانتقالية. ورغم ما يبدو من تضاد في الأهداف، فإن استمرار الفوضى يخدم الطرفين على نحو موازٍ، فإسرائيل تجد في الانقسام مبررًا دائمًا للاحتلال والهيمنة، بينما ترى فيه إيران رافعة لإعادة التموضع واستعادة النفوذ، حتى وإن كان ذلك على حساب مستقبل السوريين وأمنهم ووحدتهم.
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد:
مجموعة تلجرام >>
t.me/alarabemergency
للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >>
bit.ly/3AG8ibK
تابع كل العرب عبر انستجرام >>
t.me/alarabemergency