الرئيسية خاطرة

"أبوي بده إياني مهندس… وأمي بتحلم أكون دكتور!"

محمد سامي محاميد
نُشر: 10/06/25 18:48
"أبوي بده إياني مهندس… وأمي بتحلم أكون دكتور!"

بقلم: محمد سامي محاميد | مستشار وموجه مهني، مدير مركز توب تالنت

دخل الشاب الغرفة بخطوات مترددة، يتبعه والده بخطى واثقة. جلس الشاب أمامي وهو ينظر الى الأرض، وكأنه يحمل على كتفيه عبئًا لا يُرى. لم يجلس بعد حتى قال الأب بصوته الحازم: "حابب أكون معاه بالجَلسة، بس عشان أطّمن … !". ابتسمت وقلت بلطف: "أكيد، تفضل. بس خلّينا نسمع منه شوي… شو حابب يقول."

 جلس الشاب مقابلي، ينظر إلى الأرض بصمت، وكأن الكلمات عالقة في حلقه. لم يكن هذا مشهدًا غريبًا عليّ، بل صورة تتكرر كثيرًا: شاب حائر، يعيش تحت ظل حلم لم يحلمه هو، بل بناه له غيره بحب… لكنه ثقيل. سألته بهدوء: "احكِي لي… شو أكتر شي بتحب تعمله؟" رفع نظره نحوي، تردّد، ثم قال بصوت خافت فيه لمعة خجولة: "بحب أشتغل بإيدي… أصمّم أشياء، أجرّب، أعمل إشي من ولا إشي." لم تكن جملته ثورة، لكنها كانت أصدق ما قيل في الجلسة، همسة خرجت من داخله… لم يكن الشاب يرفض الطب، لكنه لم يكن يشعر بأنه يخصه. كانت علامات الشغف غائبة، والعيون تبحث عن شيء آخر.

في كثير من الجلسات، نكتشف أن الصراع ليس بين الاهل والابن، بل بين الحب والتوقعات. الأهل يريدون الأفضل، لكنهم أحيانًا يربطونه بتصورات قديمة، أو أحلام لم تتحقق.
في المقابل، الأبناء يبحثون عن ذاتهم، لكن يخافون أن يخيبوا الظن، أن يُساء فهمهم، أو أن يُنظر إليهم على أنهم "ضيعوا الفرصة".

من هنا، تبدأ الرحلة الحقيقية: ليست في اختيار التخصص، بل في فتح حوار صادق مع الذات أولًا، ومع الأهل ثانيًا.
أن تقول: "أنا بقدّر تعبكم واهتمامكم، وبفهم ليش بدكم إلي الأفضل، بس خلّوني أشرحلكم شو هو الأفضل بالنسبة إلي."
عندما تنبع هذه الجملة من نضج داخلي، وليست من عناد، تصبح أكثر وقعًا من ألف حجة.

الحقيقة؟
النجاح ليس محصوراً في عنوان شهادة، ولا في لقب معين. النجاح هو أن تصحو كل صباح، وتشعر بأنك في مكانك الصحيح، بأنك تعيش لا فقط لتُرضي، بل لتُثمر.
الطبيب الناجح ليس هو الذي دخل الطب غصبًا، بل الذي اختاره بقناعة. والمهندس المبدع ليس الذي أُجبر عليه، بل الذي وجد نفسه بين المساطر والأفكار.

في نهاية الجلسة، نظر إلي الأب وقال: "ما توقعت أسمع ابني بهالطريقة. يمكن لازم أراجع بعض الأمور…"
ابتسمت، وقلت: "مش غلط نحب لأولادنا الطريق، بس الأهم نحبهم وهُمّ ماشيين بطريقتهم."

في زمن أصبحت فيه الخيارات كثيرة، والضغوطات أكثر، تظلّ البوصلة الأهم هي أن تُدرك من أنت، وماذا تريد، وأن تحمل شجاعتك في يد، وامتنانك لمن ربوك في اليد الأخرى.

رسالتي إلى الأهل…
أعلم أن قلوبكم مليئة بالخوف والحرص، وأنكم لا تريدون سوى أن تروا أبناءكم في القمة، في مهن محترمة، ومستقبل آمن. وهذا حقكم، بل هذا دليل محبتكم.

لكن اسمحوا لي أن أهمس لكم كمرشد قابل العديد من الشباب: أحيانًا، أعظم هدية تقدّموها لأولادكم… هي الثقة. الثقة بأنهم قادرون على الاختيار. الثقة بأنهم، حتى لو تاهوا قليلًا، سيتعلمون. الثقة بأن الحياة لا تُقاس فقط بالشهادة، بل بالراحة النفسية، والإبداع، والاستمرار.

دوركم لا ينحصر في التوجيه الصارم أو فرض الطريق، بل في الإرشاد الحكيم والنصح الموزون، ومرافقة الأبناء في اكتشاف ذواتهم. ومن علامات هذا الوعي أن تحثوهم على التوجه إلى أصحاب الاختصاص — مستشارين مهنيين، مرشدين تربويين، وحتى نماذج ناجحة من الواقع — ليسمعوا، يستفسروا، ويُضيئوا الطريق بما يتناسب مع قدراتهم وطموحاتهم.

اتركوا لهم مساحة ليكتشفوا، وكونوا اليد الحاضنة التي تحميهم إن تعثروا، لا اليد التي تدفعهم إلى طريق لا يُشبههم.
فأن ترى ابنك سعيدًا بما يفعل، ناجحًا لأنه اختار بملء إرادته، هو أعظم فخر، حتى لو لم يحمل لقب "دكتور" أو "مهندس".
الوجه المبتسم في الصباح، والحديث الشغوف عن العمل، هما الدليل الحقيقي على أنكم نجحتم في التربية… لا في فرض الاتجاه.

امنحوا أبناءكم البوصلة، لا الخريطة. وستفاجأون بمدى بُعدهم الذي يصلون إليه، حين يشعرون أنكم تؤمنون بهم فعلًا.

اختر طريقك… وامشِ فيه برأس مرفوع، لأنك مشروع حياة.