وتبقى قضايانا في مركز الانشغالات وأولوياتها

من الطبيعي تمامًا أن تستحوذ المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران، التي استمرت نحو أسبوعين، على حيز واسع من اهتمام الرأي العام، وأن تفرض نفسها بقوة على أجندة النقاش في الفضاءات العامة والخاصة. وينطبق ذلك بشكل خاص على الفلسطينيين في الداخل، الذين، وإن كانوا بعيدين عن التأثير في قرارات هذه المواجهة ومساراتها، إلا أنهم لم يكونوا خارج دائرة تداعياتها التي طالتهم على أكثر من مستوى: البشري، والنفسي، والمادي، بل وحتى السياسي.
فالواقع السياسي المعقد والمتشابك الذي نعيشه يفرض علينا تماسًا دائمًا مع الأحداث، حتى دون امتلاك أدوات التأثير في مجرياتها الكبرى. ويزداد هذا التماس حدة حين تكون بلداتنا العربية ملاصقة للمستوطنات أو قريبة جدًا من البلدات اليهودية، ما يضع سكاننا في مرمى النيران، ويجعلهم عرضة مباشرة للصواريخ ومخلفات القصف، سواء بشكل مباشر أو عبر الشظايا والانفجارات القريبة.
وفي ظل هذا الاشتباك اليومي مع السياسة، بات من الصعب الفصل بين الشأن العام وتفاصيل الحياة اليومية، إذ تمر جميع مناحي المعيشة – وعلى رأسها البحث المتواصل عن الأمن والأمان المفقودين – عبر بوابة السياسة، وتخضع لمنطق السيطرة والتمييز، بل وأحيانًا التهميش المتعمد. ولم تعد السياسة شأنًا نخبويًا أو حكرًا على المتخصصين، بل تحولت إلى ساحة مفتوحة يشارك فيها الجميع، سواء امتلكوا أدوات الفهم والتحليل أم لم يمتلكوها.
وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي من اتساع هذه الساحة، فأصبحت منابر لمن لا منبر لهم، تتيح مشاركة فورية في النقاشات العامة، وتؤثر أحيانًا في تشكيل الوعي أو تضليله. وهكذا باتت السياسة جزءًا عضويًا من نسيجنا الاجتماعي، وساحة يشارك فيها الجميع، كل بحسب موقعه وتجربته ودرجة إحساسه بالهمّ العام.
غير أن هذا الانخراط المكثف – بل المفرط أحيانًا – في قضايا إقليمية كبرى لا نملك التأثير المباشر في مجرياتها، ينطوي على إشكالية مزدوجة: أن يُستنزف وعينا في هوامش الصراع، وأن تُهمَّش أولوياتنا المحلية التي لا يملك سوانا ملء فراغها أو التصدي لتحدياتها. فنحن، الفلسطينيين في الداخل، أصحاب ساحة لا يجوز التنازل عنها أو الانشغال عنها، ولو بحسن نية.
هذه الساحة هي ميداننا الأصيل، ومسؤوليتنا المباشرة، ومجال تأثيرنا الحقيقي في الحاضر والمستقبل. وهي تشمل قضايا تمس جوهر وجودنا الوطني واليومي، ولا تقل أهمية عن كبرى الصراعات الإقليمية. ومن أبرز هذه القضايا:
أولًا: استمرار حرب الإبادة على قطاع غزة، التي دخلت عامها الثاني دون مؤشرات على قرب نهايتها، تمثل الوجه الأوضح للمشروع الغربي – الإسرائيلي، الذي لا يستهدف الأرض فقط، بل الإنسان وكرامته ووجوده. هذه ليست حربًا عسكرية عابرة، بل جريمة جماعية تُرتكب أمام أنظار العالم وصمته، في ظل تواطؤ دولي يمنح الغطاء لمزيد من القتل والتجويع والتدمير.
وأمام هذا المشهد، لا يمكن أن نكتفي بموقف المتفرج أو المتضامن الوجداني. مسؤوليتنا أن نبقي صوت غزة حيًا، بالحراك الشعبي، والإسناد الإعلامي، والضغط السياسي، فنحن الأقرب إلى غزة ووجعها، والأقدر على إبقاء المأساة حاضرة في الوعي العام كقضية سياسية وأخلاقية تختزل جوهر الصراع.
ثانيًا: باتت الجريمة المنظمة والعنف الدموي في مجتمعنا العربي تهديدًا داخليًا يتجاوز الأبعاد الجنائية إلى أبعاد سياسية واستراتيجية. فليس ما نشهده من انفلات أمني نتيجة فراغ اجتماعي فحسب، بل هو نتاج سياسات ممنهجة تغاضت عن السلاح غير المرخص، وأسهمت في تفكيك البنية المجتمعية وإشغال الناس بصراعات داخلية تُستنزف فيها طاقاتنا.
ومع ذلك، لا تقتصر مسؤوليتنا على التشخيص أو الانتظار، بل تقتضي مواصلة التعبئة المجتمعية القائمة وتعزيزها، وتكثيف الجهود المشتركة بين المؤسسات الأهلية، والقيادات المحلية، والنخب الفكرية، لمواجهة الجريمة كأداة سياسية تهدف إلى تفكيك مجتمعنا وإضعافه.
ثالثًا: تصاعد القمع السياسي وتكريس المنظومة العنصرية ضد فلسطينيي الداخل لا يُعد مجرد حالة ظرفية، بل هو مسار ممنهج ومتواصل من الاستهداف والتضييق. ويتجلى هذا في ملاحقة النشطاء، وتجريم التعبير، وتجفيف العمل السياسي والاجتماعي، إلى جانب سنّ قوانين عنصرية تمنح التمييز طابعًا قانونيًا ومؤسسيًا. وفي هذا السياق، نشهد تصاعدًا خطيرًا في سياسة الاعتقالات الإدارية، وارتفاعًا ملحوظًا في الأحكام القضائية المشددة، التي باتت مضاعفة في هذه المرحلة مقارنة بمراحل سابقة، ما يعكس تصعيدًا مدروسًا في أدوات الردع والهيمنة.
ويتصل بذلك استمرار الاعتداءات على الرموز الدينية والثقافية، من محاولات تقييد الأذان في المساجد، إلى الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك، ضمن محاولة منهجية لفرض واقع تهويدي في القدس، وسط صمت رسمي وتراجع شعبي عربي وإسلامي، يضاعف فداحة التهديد، ويحملنا مسؤولية مضاعفة.
في الختام، أرى من الحكمة أن نعترف بأهمية الانشغال بالقضايا الكبرى التي لا يمكن تجاهلها أو التنصل من تأثيرها علينا، إلا أن ذلك لا يعفينا من التركيز والاهتمام بقضايانا الحارقة التي تمسنا بشكل مباشر، والتي لا يستطيع أحد غيرنا تحمل مسؤوليتها أو ملء فراغها.
لذا، من الضروري أن نعيد النظر في موقعنا ومساراتنا، وألا نُشغل أنفسنا بما لا نملك التأثير فيه على حساب ما نملك تغييره بأيدينا. نحن لا نواجه قضايا منفصلة، بل منظومة معقدة من التحديات التي تضع مجتمعنا في الداخل أمام لحظة فارقة تتطلب مراجعة جادة لمسارات استُنزفت في التجاذبات والانقسامات وأُفرغت من مضمونها.
ما استعرضناه هنا هو جزء من مشهد أوسع وأعمق، يستلزم منا تبني رؤية شاملة وموقفًا موحدًا، إضافة إلى مشروع وطني جامع ومستقل في رؤيته، ينبع من إرادة الناس وهمومهم. مشروع يعيد ترتيب الأولويات ويتقدم بوعي ومسؤولية نحو الفعل الحقيقي في ساحتنا وميداننا الأول.