الرئيسية مقالات

السياسة في واقعنا: سؤال المعنى وحدود المشاركة

ساهر غزاوي 
نُشر: 10/07/25 21:48
السياسة في واقعنا: سؤال المعنى وحدود المشاركة

في سياق النقاشات المتواصلة، والتي تتحول إلى سجالات حادّة أحيانًا، حول السياسة ومفاهيمها ودلالاتها في واقعنا المعاش داخل هذه البلاد، وحول أهميتها في خدمة قضايانا، يبرز سؤال جوهري: ما موقع السياسة في حياتنا؟ وما علاقتها بقضايانا وهويتنا؟ لا سيّما وأن السياسة ليست أمرًا نخبويًا معزولًا، بل هي فعل يومي يمسّ حياة الناس ويشكّل مصيرهم على مختلف المستويات. كما أن الواقع السياسي المعقد والمتشابك الذي نعيشه يفرض علينا تماسًا دائمًا مع الأحداث، حتى وإن كنا غالبًا لا نملك أدوات التأثير الكاملة في مجرياتها. 
وفي هذا الإطار، كثيرًا ما يُتداول قول منسوب إلى البروفيسور نجم الدين أربكان، السياسي والمفكر الإسلامي التركي (رحمه الله): "المسلمون الذين لا يهتمون بالسياسة، سيحكمهم حكام لا يهتمون بالإسلام". وهي عبارة تحمل في طياتها رؤية استراتيجية عميقة حول موقع الدين في الشأن العام، وتُجسد فهمًا دقيقًا للعلاقة الجدلية بين الإسلام والسياسة، خصوصًا في البيئات التي يشهد فيها الوعي تراجعًا، وتتقلص فيها فرص المشاركة الفاعلة للمسلمين في إدارة شؤونهم ومصيرهم.
في الواقع، لم تكن كلمات أربكان توصيفًا نظريًا أو ترفًا فكريًا، بل كانت دعوة صريحة لكسر العزلة والانخراط الواعي والمسؤول في العمل السياسي. فالانسحاب من الساحة لا يعني الحياد، بل يعني عمليًا ترك المجال لمن لا يعبأ بالإسلام ولا يحمل همّ أمته أو قضايا مجتمعه، لتُقصى القيم الدينية عن مواقع التأثير، وتُدار المؤسسات برؤى مادية أو استعمارية لا تعبر عن هوية الشعوب ولا عن ثقافتها.
ولم يكن أربكان وحيدًا في هذا الموقف، بل أيّده أيضًا الدكتور يوسف القرضاوي (رحمه الله)، أحد أبرز علماء العصر الحديث، الذين شددوا على أهمية السياسة في الإسلام ورفضوا الفصل المصطنع بين الدين والشأن العام. وقد عبّر عن ذلك بوضوح في عبارته الشهيرة: "القول بأن الإسلام لا علاقة له بالسياسة، كمن يقول إن الإسلام لا علاقة له بالحياة"، في إشارة إلى شمولية الإسلام ورفضه أن يُحصر في الشعائر فقط، بمعزل عن قضايا الحكم والعدل والمجتمع.
إلى هنا، لا خلاف مع من يتبنى هذا الطرح، ويستحضر تلك المقولات والمفاهيم في محطات النقاش المتأثرة، بطبيعة الحال، بالتحولات السياسية في واقعنا. لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هنا هو: هل المشاركة السياسية، كما نعيشها ونفهمها اليوم، تقتصر فقط على خوض انتخابات السلطات المحلية أو الكنيست؟ (دعونا نقول: الانشغال بـ"عجقة" الانتخابات وتوابعها وتفاصيلها)، من تحالفات ومقاعد وخطابات موسمية؟ أم أن السياسة، في جوهرها، أوسع بكثير من هذا الإطار الضيق، وأكثر عمقًا، وتعقيدًا وتنوعًا؟
في هذا السياق، يحضرني موقفان يوضحان كيف يُختزل مفهوم السياسة أحيانًا، وكيف تُؤطر الممارسة السياسية ضمن معايير ضيقة لا تعكس تعقيد المشهد السياسي وتركيبته ومساراته المختلفة.
الموقف الأول كان مع أحد نشطاء الأحزاب المشاركة في انتخابات الكنيست، الذي قال لي ذات مرة، وبشيء من الارتياح، إنه سعيد لأنني اخترت دراسة العلوم السياسية (وكان ذلك قبل سنوات)، على اعتبار أن هذا الاختيار الأكاديمي سيقودني حتمًا إلى الاقتناع بدعم خيار المشاركة في الكنيست، وكأن الفهم السياسي لا بد أن يفضي إلى هذا الموقف وحده!
أما الموقف الثاني، فكان من محاضِرة عربية حاصلة على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، قدمت مقارنة بين جناحي الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني. قالت إن أحد الجناحين اهتم بالسياسة من خلال مشاركته في انتخابات الكنيست، بينما الجناح الآخر انشغل بالدعوة والخدمات الاجتماعية، ولم يهتم – بحسب تعبيرها – بالسياسة.
لكن ما فاتها، ربما عن غير قصد، أو بسبب تبني تعريف ضيق للسياسة، هو أن هذا الجناح الثاني لم يتخل عن السياسة، بل اختار أن يمارسها من خارج منظومة اللعبة الإسرائيلية، عبر أدوات ومسارات أخرى لا مجال لذكرها الآن، تنطلق من رؤية بديلة في التغيير المجتمعي وصياغة الوعي.
ما يمكن قوله، ونحن على أعتاب معركة انتخابية حامية الوطيس – أقول معركة، لا منافسة – أنها بالفعل معركة تُخاض بجيوش إعلامية وتنظيمية، تُدار تارة للدفاع المستميت عن المشاريع الانتخابية، وتارة أخرى عبر حملات تشويه ممنهجة لا تتورع عن تجاوز القيم الأخلاقية والمعايير الاجتماعية، وتارة ثالثة من خلال تقديم المواعظ السياسية، يُستحضر فيها أحيانًا القول المنسوب إلى أربكان ("المسلمون الذين لا يهتمون بالسياسة، سيحكمهم حكام لا يهتمون بالإسلام")، وتُوجه فيها انتقادات حادة لكل من يرفض الانخراط في مفاهيمهم المختزلة للممارسة السياسية.
لكن وسط هذا الضجيج، لا بد من التذكير بأن العمل السياسي لا يُختزل في صناديق الاقتراع، ولا يقتصر على التمثيل البرلماني أو الحكم المحلي، بل يتجاوز هذه الأطر الضيقة إلى مجالات أوسع: كتنظيم المجتمع، وبناء المؤسسات، والتأثير في الرأي العام، وخوض المعارك الثقافية والإعلامية، وطرح مشاريع إصلاحية تعبّر عن طموحات الناس وتدافع عن هويتهم وقيمهم. فالحياة ليست كلها مفاوضات، ولا كلها انتخابات.
ومن هنا، تصبح إعادة تعريف المشاركة السياسية ضرورة ملحة، لا بوصفها موسمًا انتخابيًا عابرًا، بل باعتبارها فعلًا نضاليًا مستمرًا، متجذرًا في الوعي، ومرتبطًا بالانتماء، ومنفتحًا على مختلف أدوات التأثير والتغيير. ففي المقابل، يبقى النقد، مهما بلغ من العمق والوجاهة، مجرد ترف نظري أو ثرثرة داخل أطر مغلقة، ما لم يتحول إلى بديل عملي، وتنظيم فعال، ورؤية متكاملة تُترجم إلى حضور ملموس وتأثير فعلي في الميدان.
والتجربة – محليًا وعربيًا – أثبتت محدودية الرهان على المسارات البرلمانية، في ظل أنظمة تُفرغ السياسة من مضمونها، وتحاصر كل محاولة جادة للإصلاح أو التغيير الجذري. ولذلك، فإن مسؤوليتنا اليوم لا تكمن في خوض الانتخابات فحسب، ولا في الانشغال بـ"عجقة" المنافسات، بل في استعادة البوصلة، وتجاوز وهم "الشرعية الشكلية" أو "التأثير المحدود"، وبناء مشروع سياسي بديل يواجه الواقع بدل التكيّف معه، ويصون المبادئ بدل اللهاث وراء المقاعد.