التّمكين لن يتحقق بالتّمنّي - حين يتحوّل المهدي إلى غطاءٍ للعجز والكسل

يؤمن كثيرٌ منّا بقدوم المهدي عليه السلام في آخر الزمان، ذلك القائد الموعود الّذي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، بعد أن مُلئت ظلمًا وجورًا. قال عليه الصلاة والسلام: "لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث رجلًا منّي أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلِئَت ظلمًا وجورًا". غير أنّ بعضهم يتعامل مع هذا الإيمان كأداةٍ للهروب من الواقع والواجب، بعيدًا عن نداء الاستعداد والبذل والعمل، وكأنّ الخلاص سينزل فجأةً دون سعيٍ أو جهدٍ أو استعداد! مع أنّ العمل في ديننا لا يسقط حتّى الرمق الأخير، قال عليه الصلاة والسلام: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتّى يغرسها فليفعل".
يتصوّر بعض الناس ظهور المهدي كضربة قدريّة خاطِفة، يقلب بها موازين الأرض بين ليلة وضحاها، يُقيم بها العدل دون تدرُّجٍ، وينشر القسط دون إعداد، ويكسر الظلم بمجرّد حضوره، وكأنّ الأمر معجزة تُختزَل في لحظة! ويغيب عن أذهانهم أنّ رسول الله محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم، وهو خيرُ من وَطِئ الثرى، لم يُمنَح هذا التمكين إلّا بعد مسيرة شاقّة دامت 23 عامًا، ملؤها الدعوة والتربية، والهجرة والجهاد، وبناء الجماعة، وعقد التحالفات، وترسيخ القِيَم، ونسج التنظيم، وعقد الاتفاقيّات، بل والتنازل في بعض الأحيان. نزل عليه الوحي، وقاتلت معه الملائكة، وأدّبه ربّه فأحسن تأديبه، ولم يُنجَز مشروعه الربّاني إلّا بالكدّ والصبر والمصابرة والمثابرة والتخطيط الدقيق.
فكيف يُعقَل أن نُقزّم مشروعًا بهذا العمق والامتداد، في خيالٍ ساذج ينتظر مخلّصًا يهبط من فراغ، ينقذ أمّةً غارقة في سباتها، ساكنة بلا حراك، تائهة بلا إعداد، مشتّتة بلا مشروع، وضائعة بلا رؤية واضحة قابِلة للتنفيذ؟ المهدي المنتظر ليس بديلًا عن الإصلاح العاجل، ولا يُغني عن التربية العميقة، ولا عن التخطيط الواعي، ولا عن الجهد المتراكِم. إنّه نتيجة مسيرٍ طويل، لا وسيلة نفسيّة لتبرير الفشل أو كساء يُغطّي عورة التقصير والركود. وصدق من قال: "ومن طلب العلا من غير كدٍّ، سيدركه إذا شابَ الغرابُ".
إنّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلم هو النموذج الأسمى والقدوة الأولى للمهدي المنتظر، ولكلّ مصلحٍ يسعى لنهضةٍ حقيقيّة، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}. في صبره يتجلّى الثبات، وفي منهجه تتّضحُ المعالم، وفي تدرّجه وبنائه نرى فنّ المراحل وفهم السنن. وتعاطيه الواقعي مع الظروف كان نبراسًا في فنّ الممكن، وحركته المنظّمة نحو التمكين كانت درسًا في القيادة المتأنّية الرشيدة. فمن أراد أن يسير في ركاب المهدي، فليبدأ من حيث بدأ النبي، بتزكية النفس، وصناعة الإنسان، وبناء الجماعة، والاستعداد للتضحية، ووضع لبنات مشروعٍ يحمل فكرًا وعملًا، لا حلمًا وهميًّا.
في طريقه إلى التمكين، لم يعرف النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم التواكل ولا الركون، ولم يجلس يومًا ينتظر نصرًا ينزل من السماء دون سعي. كان في حراكٍ دائم لا يهدأ، يطرق كلّ باب، ويبحث عن كلّ سبيل، ويطلب النصرة من كلّ ذي عقل وضمير، يبني العلاقات، ويرسم التحالفات، ويُمهّد الأرض لزرع دعوته، ويسير بخطى واثقة نحو الغاية الّتي أفنى لأجلها عمره، وبذل فيها كلّ ما يملك من طاقةٍ ونَفَس. أمّا الانتظار الكسول، الّذي لا يحمل مشروعًا ولا يحمل همًّا، فهو لن يُقيم أمّة، بل يتركها فريسة للتيه والركود والعجز الّذي حذّرنا منه عليه الصلاة والسلام حين قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز".
اللهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم والقسوة، والذلّة والمسكنة يا ربّ العالمين.