أنا من هناك": مونودراما عامر حليحل… حيث تتجسد الذاكرة الفلسطينية على خشبة المسرح

أنا من هناك": مونودراما عامر حليحل… حيث تتجسد الذاكرة الفلسطينية على خشبة المسرح
قراءة نقدية في العرض المسرحي
في عرض استثنائي ومبهر، قدّم الفنان الفلسطيني عامر حليحل على خشبة المسرح عملاً دراميًا مكثفًا بعنوان "أنا من هناك"، كتب نصّه وأدّاه منفردًا في صيغة مونودرامية، تحت إدارة إخراجية دقيقة للمخرج بشير نهرا، وبمشاركة فريق تقني مبدع ضمّ: نعمة زكنون في تصميم الإضاءة، ورونزا مرشي في تصميم المؤثرات الصوتية والبصرية.
من السيرة الذاتية إلى سيرة جماعية
يخوض عامر حليحل في هذا العمل مغامرة فنية قائمة على سرد مقاطع من سيرته الذاتية، غير أنها لا تُقدَّم بوصفها سيرة فرد، بل بمثابة سيرة لجيلٍ فلسطيني كامل وُلد ونشأ في ظلال النكبة، داخل ما تبقّى من الوطن بعد العام 1948. في هذه المساحة الجغرافية–الوجدانية المعقدة، تطرح المسرحية أسئلة الهوية والانتماء واللغة والانقسام الثقافي، ضمن تجربة الفلسطيني في الداخل، الذي بقي هناك، في وطنه، ليعيش غربة من نوع آخر: غربة داخلية.
يتمتع النص المسرحي -وهو من تأليف الفنان عامر حليحل -بلغة عالية التكثيف، تُزاوج بين التهكم والمرارة، وبين النثر الشعري والنبض الشعبي، فكانت المونودراما توليفة ذكية من الكوميديا السوداء التي تُضحك المشاهد لتبكيه في اللحظة التالية. ويوظّف عامر جسده وصوته ببراعة لخلق طيف واسع من الحالات الشعورية، فينتقل بانسيابية بين طفولته، وشبابه، ووعيه السياسي، وانكسارات الواقع.
وما يميز المسرحية هو الحضور الطاغي للشعر. فالنصوص الشعرية لم تكن زينة لغوية بل جزءًا من البناء الدرامي، إذ كانت قصائد محمود درويش، توفيق زياد، سميح القاسم، معين بسيسو، نزار قباني وغيرهم، تحضر لتؤطّر التجربة، وتغذّي النص العاطفي والتاريخي، وتُشكّل في كثير من اللحظات امتدادًا عضويًا لصوت عامر، بل كأنها صوته الداخلي، أو صدى الجرح الجمعي الذي يتكلم بلسانه.
وقد تميّز العرض بتكامل العناصر التقنية، لا كخلفية جمالية بل كونها أداة فنية ذات وظيفة درامية. فقد صمّمت رونزا مرشي مشاهد فيديو ومؤثرات سمعية وبصرية جاءت منسجمة مع المونولوج، فأنتجت بُعدًا سينمائيًا داعمًا للمشهد المسرحي، فيما استثمرت نعمة زكنون الإضاءة بشكل تعبيري لتقسيم الفضاء الزماني والمكاني على الخشبة، وتوجيه التركيز الشعوري للمُشاهد.
أمّا عن أداء الفنان عامر حليحل ممثلًا ومؤلّفًا كان إثراء لوجداننا
قدّم عامر حليحل أداءً مدهشًا بمقاييس فن الممثل الواحد. فهو لم يكن مجرّد ناقل لحكاية بل كان جسدًا حيًّا لذاكرةٍ مثقلة، ولسانًا ناطقًا بعذاباتٍ جمعيّة
تميّز أداؤه بدقة الحركة، وانضباط الصوت، وسلاسة الانتقال بين حالات معقدة من الضحك والبكاء، من السخرية إلى التأمل، من الفقد إلى الاحتجاج. لقد كانت لغته الجسدية مبهرة، تشكّل نصًا بصريًا يوازي النص المنطوق، بل يتجاوزه أحيانًا.
بحيث شكّلت المسرحية مونودراما الوجع الفلسطيني
"أنا من هناك" ليست مجرد مونودراما عن الفنان عامر حليحل، بل هي تجسيد شعري–مسرحي لمأساة الفلسطيني في الداخل المحتل، ذاك الذي لم يُهجّر جسديًا بل نُفي معنويًا، وظل يواجه اغترابًا لغويًا، ثقافيًا، سياسيًا، لا يزال قائمًا حتى اليوم. ومع كل لحظة من العرض، كان الجمهور يتنقّل بين وجع الحنين، ومرارة الواقع، وسخرية المصير، في تواشج نادر بين الفن والحقيقة.
استطاع عامر حليحل، بإدارة إخراجية واعية من بشير نهرا، أن يقدّم عملاً مسرحيًا متكاملًا، إنسانيًا، جريئًا، وعميقًا، يُكتب له أن يُدرّس في مساقات المسرح السياسي وفن المونودراما. هذا العرض لا يُشاهد فحسب، بل يُعاش، لأنه ينهل من جرحٍ ما زال نازفًا، ويعيدنا جميعًا إلى سؤال: "من نحن، وأين نحن، ولماذا؟"