تركة المهندس

عاش عمرًا مديدًا (94 عاما)، أمضاه ما بين الواقع والحلم، اما الواقع فهو ممارسة عمله واحدًا من أوائل المهندسين وكبرائهم في مدينتنا الحبيبة المشتركة الناصرة، واما الحلم فقد تمثل في جولات متتابعة ومتلاحقة في ربوع الوطن، لا سيّما في القرى المهجرة من أهلها قسرًا منذ عام النكبة الكبرى.
ميشيل خليل ابو نوفل من مواليد مدينة الناصرة بتاريخ 10/10/ 1930، تلقى علومه الأولى فيها. أحبّ فن الرسم وهو لما يطرّ شاربه، منذ سنوات الطفولة المبكرة، ما لفت اليه الأنظار ودفع العديدين من المحيطين، من أهل ومعلمين الى تشجيعه، وهكذا نما لديه حبّ الرسم، وعندما شبّ عن الطوق محقّقًا تفوّقًا ملحوظًا في عالم الرسم، كان لا بُدّ له من الالتحاق بمعهد الهندسة التطبيقية ( التخنيون)، في مدينة حيفا، ليدرس هناك موضوع الهندسة وليتخرّج في أواخر الخمسينيات، مسجلا نفسه واحدًا من أوائل المهندسين بعد النكبة في البلاد، وطالما ذكر امامنا، نحن المحيطين والأصدقاء، خلال لقاءاتنا المشتركة في دكان بيع التذكاريات بادرة الصديق الاديب الشاعر الراحل طه محمد، انه كان المهندس العربي الثاني في البلاد بعد تخرجه من المعهد المذكور.
محبّة ابي نوفل للرسم والهندسة، دفعته لان يتعاون مع آخرين في إقامة معرض فني كبير ضم نتاجات فنية من فترة اقامته في الستينيات، ما لفت اليه الأنظار، وما دفع المحيطين به للاعتزاز بعمله الرائد ذاك، ومما يذكر عنه في هذا السياق انه انضم، في أواخر التسعينيات واوائل الالفية الجارية، الى نادي معالم الوطن الذي نشط منطلقا من المركز الثقافي البلدي في حينها، وفيما بعد المركز الثقافي البلدي على اسم الشاعر الراحل محمود درويش، ولفت النظر في هذه الفترة تحديدًا انه كان مُحّبًا عاشقًا للحجارة مفتونا بها، بالضبط كما فتنته اخشاب بلادنا، فكان يجمع من كل مكان يحلّ فيه، برفقة أعضاء نادي معالم الوطن، في مقدمتهم الصديقان عريب زعبي من إدارة مركز درويش الثقافي البلدي سابقا، والمتأدب المُرشد السياحي فوزي ناصر، يجمع ما يلفته هناك من حجارة واخشاب فيقوم بحمله، من اجل ضمّه إلى اخوان احباء له يقبعون في خزائن خاصة تقوم في مكتبه الذي انتقل اليه من منطقة الكازنوفا إلى عمارة بيت الصداقة، واذكر بكثير من المودة انني قمت بترتيب زيارة خاصة له قبل سنوات نافت على العقد، وكتبت تقريرًا صحفيًا عن عاشق حجارة الوطن المهندس المبدع من الناصرة.
في ذلك التقرير تحدّثت عن المهندس المبدع الذي طالما خطّط وأعد الخرائط الهيكلية والمحلية الكبيرة في انحاء مختلفة من البلاد، كما تحدثت عن لقاءاتي به في دكان تذكاريات طه محمد علي، وعن محبته للأدب والفن، وعن تلك الفرحة التي كانت تلوح على محياه البسيط المتواضع السمح، كلما تحدّث طه عن هذه القضية الأدبية او ذلك الشاعر الاديب المبدع من الاخوان العرب والأجانب. وقد تركّزت في ذلك التقرير في موضوع الأحجار والاخشاب، واذكر هنا مما ادلى به من اقوال في هذا المجال، أنه أغرم بحجارة الوطن واخشابه لأنه رأى فيها أصحابها المهجّرين قسرًا، وانه أراد ان يحتفظ ببعض منها تعزيزا لمحبة لأولئك، كمنت في قلبه، وتنمية لحسّ بالانتماء إليهم. واذكر في هذا السياق انني قمت بإرسال ذلك التقرير الى مجلة "ترفزيون"، التي كانت تصدر في حيفا، بملكية الصحفي المرحوم رائد فرح، مرفقا إياه بالعديد من الصور المعبّرة التي تكاد تنطق بما تفوّه به وحكاه عنها أبو نوفل، وفي لقاء لنا بعد نشر ذلك التقرير أطلت ابتسامة حيية من محياه وقال لي لقد نقلتني بالضبط كما اردت. تقريرك أوصل الرسالة بدقة وأمانة. بعد نشر ذلك التقرير ازداد عدد الزوار لمكتب مهندسنا الهُمام، حتى انه كاد يتحوّل الى متحف آخر يكمل مشروع معالم الوطن ويضيف اليه. كتابتُنا ذلك التقرير دفعت آخرين لكتابة تقارير مماثلة، أذكر منها صحيفة الاتحاد الغراء ومجلة الاصلاح التي صدرت وما زالت بهمة الصديق المتأدب المثابر مفيد صيداوي صاحب لقب "ابن الخطاف".
كلّ هذا كرّس المهندس ميشيل أبو نوفل واحدًا من أصحاب الشخصيات اللافتة في مدينة الناصرة، وقد تمّ تكريمه في أكثر من أمسية ومحفل ووقف في طليعة هذه التكريمات استضافة مؤسسة توفيق زياد للثقافة الوطنية والابداع له في أمسية خاصة، اقامتها قبل نحو العقد ونصف العقد، في قاعة مركز الاحداث الارثوكسي بالناصرة، ضمن مشروعها الرائع للحياة معنى.
رحم الله مهندسنا الكبير ميشيل أبو نوفل فقد رحل، يوم الجمعة 12/7/2024، ووري تراب مدينته التي أحبها حبّه لأمه وأبيه في اليوم التالي (السبت). لقد سجّل الفقيد قصةَ محبة غامرة لمدينةٍ نادرةٍ وخلّف وراءه قصة عشق لكلّ ما هو جميلٌ.. انسانيٌّ وصادق..