الرئيسية مقالات

ماذا بعد اللحظة الكاشفة؟

ساهر غزاوي
نُشر: 17/07/25 21:13
ماذا بعد اللحظة الكاشفة؟

رغم أن حرب الإبادة والمحرقة الجماعية التي تشنها إسرائيل على غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 شكّلت لحظة كاشفة للجميع، إلا أن الواقع السياسي والاجتماعي المتردّي في المجتمع الفلسطيني في الداخل لم يبدأ معها، بل سبقها وتعزّز خلال السنوات الأخيرة. فمن غير المنطقي اختزال مظاهر التدهور الراهنة في تداعيات الحرب وحدها، إذ إن حالة التردّي السياسي كانت قائمة وتتفاقم باطراد، وقد تجلت في تآكل التنظيم السياسي الميداني لصالح التركيز شبه الكامل على التمثيل الانتخابي – سواء في الكنيست أو السلطات المحلية – إلى جانب غياب المشروع الجماعي الفاعل وتراجع التأثير الحقيقي في المشهد السياسي العام. 
ضمن هذا السياق، ساهمت ملاحقة السلطات الإسرائيلية للتيارات السياسية الفاعلة، ومنعها من التنظيم والعمل الميداني، في تغييب التعددية السياسية الحقيقية، وانعدام المنافسة الحزبية الجادة على مختلف المستويات. وقد اتضح أن بعض الجهات الحزبية لم تكن تخوض المنافسة – حتى في مشاريع متشابهة وتحمل العنوان نفسه أحيانًا – إلا لوجود خصم حقيقي وفاعل في الشارع. ومع تغييب هذا المنافس، تلاشى الدافع للتنافس وتراجع الحافز للعمل، حتى بدا وكأن وجود هذه الأحزاب مرهون فقط بوجود من ينازعها الموقع، لا بامتلاكها رؤية مستقلة أو مشروعًا ينبثق من حاجات المجتمع وتطلعاته.
وفي موازاة هذا التراجع، صعدت السلطات الإسرائيلية من سياساتها القمعية ضد فلسطينيي الداخل، في محاولة لكسر إرادتهم الوطنية وعزلهم عن عمقهم الفلسطيني والعربي والإسلامي، عبر تضييق الحريات، وملاحقات سياسية، وتشويه إعلامي، وتجريم مواقف التضامن ورفض العدوان، بهدف تفريغ الانتماء الوطني من مضمونه، ونزع شرعية النقد السياسي. غير أن هذه السياسات ليست جديدة، بل تُعد امتدادًا لهشاشة بنيوية عميقة تعود لعقود، تجلت في أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية. فقد أدت سياسات الإقصاء والتهميش إلى تفكيك النسيج المجتمعي، وإضعاف مؤسسات المجتمع المدني، وحرمان البلدات العربية من الحد الأدنى من التخطيط والتنمية الأساسية. وتفاقمت هذه الهشاشة بسبب الانقسامات الداخلية، وغياب المشروع الوطني الجامع، والانكشاف المستمر أمام أدوات القمع والرقابة. ومع ضعف التنظيم السياسي، وتقاعس مؤسسات الدولة في مواجهة العنف والجريمة، تعمق شعور المواطنين العرب بفقدان الأمان وتآكل الثقة بالمؤسسات الرسمية.
وتُعد الحالة الخطابية والسلوكية لبعض القيادات السياسية واحدة من أكثر تجليات هذا الانحدار السياسي وضوحًا. فقد بات سلوك عدد من السياسيين وقادة الأحزاب مادة للتندر والنكات على مواقع التواصل الاجتماعي، نتيجة ما يتسم به من ضعف، وتناقضات، واستعراضات إعلامية ومسرحيات بهلوانية بعيدة عن تطلعات الناس. هذه السخرية، التي يُعبر عنها علنًا في الفضاء الرقمي، لا يُستبعد أن نجد صداها كذلك في الجلسات العامة والمناسبات الاجتماعية والعائلية، ما يعكس حجم الفجوة الآخذة بالاتساع بين القيادة السياسية والشارع، وعمق أزمة الثقة المتزايدة في ممثلي الجمهور. وتكاد السخرية والمزاح تُهيمنان على أجواء النقاشات اليومية، كعلامة على بلوغ السخط واليأس ذروتهما، حتى غدت السخرية وسيلة شبه وحيدة لتخفيف وطأة هذا الواقع المتردي.
ولا يتوقف أثر هذا التدهور السياسي عند المستوى الرمزي، بل يمتد ليطال البنية الاجتماعية نفسها. فقد انعكس هذا الانحدار بشكل صارخ في استفحال ظواهر العنف والجريمة، والانكشاف المتزايد أمام أدوات السيطرة والهيمنة التي تنتهجها الدولة. وإلى جانب ذلك، رسخ هذا الواقع مفاهيم المطالب الحياتية والخدماتية والرفاهية المصطنعة، حيث تشير التحولات الاقتصادية التي شهدها المجتمع العربي خلال العقدين الأخيرين إلى بناء وهمي للرفاه، يعتمد على الاستهلاك والخدمات بدلًا من الإنتاج الحقيقي، ما فاقم من هشاشة البنية الاقتصادية، ورسخ شعورًا زائفًا بالاستقرار والانتماء.
ورغم هذا المشهد المركب، لا يزال هناك من يحاول اليوم قياس نبض المجتمع الفلسطيني في الداخل من خلال حجم التضامن مع غزة، أو من خلال قدرته على تحدي الواقع القائم في ظل الحرب، وكأن التردي بدأ من تلك اللحظة وحدها. متجاهلين أن هذه الحرب لم تصنع الأزمة، بل كشفت عمقها، وأظهرت مدى هشاشة الوضع القائم واتساع دوائر التفكك والتراجع.
لكن الأهم، في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، وفي ظل هذه الظروف الحالكة واللحظة الكاشفة التي يعيشها الشعب الفلسطيني عمومًا، والمجتمع الفلسطيني في الداخل على وجه الخصوص، أن نطرح سؤالًا جوهريًا: هل ما زال لدى هذا المجتمع القدرة على التحدي، والثبات، والصمود في وجه العاصفة؟
الجواب السريع والموجز: نعم، بالتأكيد.
أما التفاصيل، فهي ما سأحاول التوقف عندها في مقالة لاحقة، إن كتب الله لنا الحياة.