دماء صارخة

في الزاوية ذاتها التي سقطت فيها صديقتي ميس ذات ظهيرةٍ مُباغتة، لا يزال اللون الأحمر يُقيم.
لم تغسله الأمطار، ولا محته السنوات.
كلّما مررت من هناك، يصرخ فيّ.
ليست الدماء هي التي تؤلم… بل صراخها.
صوتها، نعم، لها صوت.
لا يشبه أصوات البشر، ولا حتى عويل الأمهات.
إنه وجعٌ ناطق، خفي، يُقيم في عظام الذاكرة، يشبه شهقة طفلٍ تفاجأ بخيانة العالم.
كنا نلعب في الساحة، نرسم على الحيطان أحلامًا صغيرة:
أن نصير معلمات أو شاعرات، أو نغني على مسرح المدرسة.
لكن الرصاص لا يفهم لغة الأحلام.
فجأة، سمعتُ طرقعة غريبة، ثم شهقة… ثم سكوتًا مطبقًا.
أذكر أنني اقتربت منها، شددتُ طرف قميصها الأبيض، همستُ لها أن تنهض… لكنها كانت قد ودّعت الصباح الأخير.
كان وجهها ساكنًا، وعيناها مفتوحتين على اتساع الدهشة.
كأنها لم تصدق أن العالم يخون بهذه السرعة.
سألتُ أمي:
هل الدم يتكلم؟
فهمست لي، وهي تضع رأسها على وسادتي:
الدم لا يسكت يا ابنتي… إن كان بريئًا، فهو يصرخ حتى يُعثر له على معنى، على محكمة، على اعتذارٍ شجاع من هذا الكون البارد.
مرت السنوات، وكبرتُ أنا… وكبرت الدماء معي.
رأيتها في نشرة الأخبار، عند جدار فصلٍ عازل، وفي عيون طفلةٍ تحمل دفتر صديقتي وتحلم أن تكمل الحكاية.
رأيتها في وجه لاجئةٍ تُمسك صورة شقيقتها وتهمس: كانت تحب الرقص.
في كل مرة أُشاهد الدم، أسمع الصراخ ذاته.
كأنّ الأرواح المظلومة ترفض أن تُدفن.
كأنّ الدماء – خلافًا لما نظن – لا تذبل.
بل تبقى حيّة، صارخة، متوجعة…
تجعل منّا شهودًا، أو متواطئين.
أنا؟
ما زلتُ أعيش في الحارة التي كنا نركض فيها.
أفتح نافذتي كل صباح وأقول لها:
صباح الخير يا وجه الذاكرة.
لم أنسكِ.
وصراخ دمكِ… ما زال يُربكني.