حينَ يزهرُ الصبّارُ في القلب: قراءة لرواية "إلى أن يُزهر الصبّار" لريتا عودة

في زمنٍ تتشظى فيه الأرواح وتضيع الهوية بين متاهات الخراب الخارجي والداخلي، تنبعث رواية "إلى أن يُزهر الصبّار" كأنها صلاة خافتة، صلبة، تعاند الريح، وتتلو تراتيل الصبر والاحتراق والقيامة. ريتا عودة، الكاتبة التي لم تتخلّ يومًا عن دهشتها رغم قسوة الواقع، تنسج من الشوك قصيدة، ومن الرماد امرأة.
الرواية لا تقول: "هذا ما حدث"، بل "هكذا شعرتُ حين حدث"، وبهذا تمارس طقس البوح وتفتح جرح الإنسان الفلسطيني كامرأة، وكابنة وطن يُمحى تاريخه كل يوم. في عالمٍ تتداخل فيه الأسلاك الشائكة مع الأقدار، تعيد عودة رسم الجغرافيا، لا بالخرائط، بل بالنبض.
"كتبتُ لأتحرّر من القيد... ولأضمّد جرحَ الوطن بي."
(ريتا عودة، إلى أن يُزهر الصبّار)
هنا نبدأ.
المرأةُ كأيقونة مقاومة نفسية وفلسفية
المرأة في هذه الرواية ليست كائناً بوجعٍ جانبي، بل هي الوجع ذاته. هي الأرض التي يُنتهك كيانها كل يوم وتُجبر على أن تنبت رغم شظف العيش. البطلة التي تمضي بنا الكاتبة من خلالها ليست ضحية، بل حارسة لذاكرتها، ومتآمرة على هشاشتها.
فرويد يرى أن الكتابة شكل من أشكال العلاج النفسي (Freud, Creative Writers and Day-Dreaming, 1908)، وفي هذا السياق يمكننا اعتبار النص كله مساحة استشفاء، لا فقط للشخصية، بل للكاتبة نفسها، وللقارئ الذي يرى ذاته في هذه الصفحات. عودة لا تكتب عن المرأة، بل تكتب المرأة، بكل هواجسها وأحلامها وانكساراتها.
اللغة: بين الشعر والفجيعة
اللغة في الرواية لا تخضع لبنية السرد التقليدي، بل تتراقص على حواف الشعر. تتعمد عودة أن تجعل القارئ يتعثر بالجمال، كمن يطأ شوك الصبّار حافيًا. تكتب بجسدها، بذاكرتها، وبأنوثتها المقهورة. اللغة هنا لا تنقل القصة، بل تخلقها.
"كأنني أكتبُ كي لا أنقرض، كي لا أموتُ صامتةً."
(ريتا عودة)
وهذا يتقاطع مع رؤية جوليا كريستيفا التي اعتبرت أن الكتابة النسوية ليست فقط مقاومة للمحتوى الذكوري، بل مقاومة للغة الذكورية ذاتها، فـ"اللغة أداة سلطة، وعلى المرأة أن تُخضعها لصوتها الداخلي" (Kristeva, Desire in Language, 1980).
الصبّار: استعارة كونية
الصبّار ليس نباتًا هنا. هو كيانٌ كامل، هو شخصية، هو فلسطين، وهو الأنثى التي ترفض أن تُقلع من جذورها. عنوان الرواية لا يعد بالزهر، بل يُعلّق الأمل عليه. "إلى أن يُزهر" يعني أننا لم نصل، ولكننا نأمل، وننتظر، ونُراكم الصبر.
وهذا يتوافق مع طرح ألبير كامو في "أسطورة سيزيف"، حيث يعتبر أن الإنسان الذي ينهض رغم عبثية الحياة هو إنسانٌ حر. بطلة ريتا عودة تنهض، تصرخ، وتكتب، لا لأنها واثقة من الخلاص، بل لأنها لا تمتلك خيارًا آخر.
العشق في ظلّ الاحتلال: انفجار داخلي مزدوج
الجانب العاطفي في الرواية لا يُقدَّم كملاذ، بل كمرآة للكسر الأكبر. الحب لا يُحرّر البطلة، بل يعرّيها. إنها تحب كما تُصلّي، وتُصلَب كما تُحب.
الوجودية هنا تتجلّى في أوضح صورها، كما يرى جان بول سارتر أن "الإنسان مشروع لا يكتمل إلا بفعل"، والبطلة بفعلها، بكتاباتها، برفضها للانصياع، تصير. إنها ليست ضحية، بل مشروع تمرد مستمر.
الرواية كفعل تحرّر وطني
لا يمكن فصل الذات الفردية في الرواية عن الجماعية. فالوطن حاضر لا كخلفية، بل ككائن حي، كجسدٍ مُنتهك، كأمٍ تُقاوم النسيان. وهذه المقاربة تتماهى مع رؤية إدوارد سعيد الذي اعتبر أن "الكتابة الفلسطينية يجب أن تكون جسرًا بين الحنين والمقاومة" (Reflections on Exile, 2000).
ريتا عودة تعي هذا الدور جيدًا. هي لا تتأمل الوطن من مسافة، بل تكتبه كما يُكتبُ الجسد في لحظة ارتعاشٍ أو نزف.
خاتمة: حين يصبح الألم تراتيل خلاص
"إلى أن يُزهر الصبّار" ليست رواية، بل مرآةٌ مهشّمة نرى فيها وجوهنا. نقرأها فننزف، ونبتسم، ونرتبك، وننهض. ليس لأننا أقوياء، بل لأننا لا نملك ترف السقوط. الكاتبة هنا لا تمنحنا إجابات، بل تفتح الباب لأسئلتنا. ونحن، في مواجهتنا لهذه الصفحات، نعيد كتابة ذواتنا.
تمامًا كما قالت البطلة في أحد فصول الرواية:
"أكتبُ لا لأشكو، بل لأحيا."
وأيُّ حياةٍ أصدق من تلك التي تُكتَبُ بالدم، ويُسقيها الصبّار؟