اجتياح/ بقلم: رانية مرجية

في صباحٍ غامضٍ لا يشبه أيّ صباح، استيقظ الناس على صمت لم يألفوه.
لم توقظهم زقزقة العصافير، ولا ضجيج الحارات، ولا رائحة الخبز الطازج التي كانت تملأ الأزقة.
كان الصمت كثيفًا، يخنق الجدران ويعري الأرواح.
كأن المدينة كلّها دخلت في غيبوبة جماعية يصعب إيقاظها منها.
لا أحد في المطبخ، لا أحد في الباحات، لا ظلّ لوجوه الأمهات خلف النوافذ.
البيوت مفتوحة، لكن لا أحد يدخل ولا أحد يخرج.
حتى الهواء نفسه بدا مترددًا، خائفًا من التجوّل بين الأزقة في هذا النهار المختلف.
لم يأتِ جندي، ولم تُحلّق طائرة فوق الرؤوس،
ومع ذلك شعر الجميع أن شيئًا رهيبًا قد حدث.
اجتياح…
ليس كما تصفه الكتب أو كما يظهر في نشرات الأخبار،
بل اجتياح داخلي، ناعم، خفي، مباغت، لا يُرى ولا يُدوّن.
وجوه الناس بدت هادئة على نحوٍ مريب، كأنها تعرف، لكنها لا تملك الكلمات.
عيونهم كانت تتفرّس في الفراغ، تبحث عن شيء مفقود، عن سؤالٍ لم يُطرح بعد، عن معنى فقدوه دون أن يلاحظوا متى أو كيف.
في زاوية حديقة مهجورة، جلس رجلٌ كان بالأمس يُحلّ الكلمات المتقاطعة في المقهى،
أما اليوم، فراح يرسم دوائر على التراب بإصبعه المرتجف، ويهمس لنفسه:
“لقد دخلوا من شقوق الذاكرة… لا من الحدود.”
لم تُسمع صافرة إنذار، ولم تُكسر نافذة،
لكنّ الأرواح سقطت واحدةً تلو الأخرى، كما تتساقط أوراق الشجر اليابسة في رياحٍ لا تُرى.
كان الاجتياح ناعمًا كالغبار، شفافًا كالخذلان، يتسلّل عبر الأحلام المؤجلة والخوف المتراكم، ويأخذ من الناس الرغبة، الأمل، حتى القدرة على الشك.
ارتدت النساء السواد دون أن يعرفن مَن مات.
الأطفال رسموا بيوتًا بلا أبواب، بلا نوافذ، بلا أهل.
الرجال جلسوا في مقاهٍ مغلقة يتأملون فناجين قهوة باردة،
كأنهم ينتظرون أحدًا لن يأتي أبدًا.
وفي أرشيف قديم، وُجدت ورقة صفراء كُتبت بخطٍ شاحب:
“حين يجتاحوننا، لا يبحثون عن الأرض،
بل عن موضع النبض.
يجتاحوننا من الداخل،
حيث لا نملك مقاومة،
ولا نشيدًا وطنيًا واحدًا.”
في اليوم التالي، عاد كل شيء إلى مكانه.
امتلأت الشوارع، وعادت الضحكات،
بدأ الراديو يبث أغنية قديمة،
عاد الناس إلى وظائفهم، ولعب الأطفال في الحيّ كما لو أن شيئًا لم يكن.
لكن العيون لم تعد كما كانت.
في نظراتهم انكسر شيء لا يُرمم.
كأن أرواحهم ارتدت إلى داخلها ونسيت كيف تعود إلى الضوء.
سأل أحدهم:
“هل انتهى الاجتياح؟”
فأجابه رجل لم يعد يعرف اسمه:
“الاجتياح الحقيقي لا يبدأ حين يدخل الغزاة،
بل عندما نعتاد على غيابنا.”
ربما كانت تلك مجرد هلوسة جماعية.
وربما لم يكن الحلم إلا تمرينًا على الانقراض القادم.
لكنّ الناس، منذ ذلك اليوم، كلما استيقظوا،
أخذوا يتحسّسون وجوههم،
يتأكدون أنهم ما زالوا هنا،
وأن الاجتياح لم يُكمل مهمته… بعد.