بيت الشعر والمقلوبة… حين يصبح المتحف وطناً للروح

بيت الشعر والمقلوبة… حين يصبح المتحف وطناً للروح
بقلم: رانية مرجية – كاتبة وصحافية
⸻
مقدمة
لا تأتي زيارة المتاحف دائماً لتُشبع الفضول السياحي، أحياناً تتحول إلى رحلة وجودية، توقظ الذاكرة وتعيد ترتيب المعنى. زيارتي إلى بيت أ-شاعر – متحف رهط للتراث البدوي لم تكن نزهة عابرة، بل كانت عودة إلى الجذور، وانفتاحاً على هويةٍ ما زالت تنبض بالحياة في قلب الصحراء.
⸻
ذاكرة لا تشيخ
داخل أروقة المتحف لمستُ أن الماضي لم يمت، بل يتنفس في الحاضر. النول المعروض لم يكن مجرد آلة، بل أنامل جدّات حيّة تغزل الصوف لتقيم منه بيوتاً تقي من الحر والبرد. البئر التفاعلي لم يكن قطعة ديكور، بل صدى أيدٍ عتيقة سحبت الماء بجدّ وصبر، وكأن كل قطرة فيه قصيدة صمود. حتى فيلم العرس البدوي لم يكن مجرد وثيقة مصوّرة، بل كان نافذةً على فرحٍ نقيّ، يشبه فرح قُرانا القديمة حين كان الفرح جماعياً والبسمة أثمن من الذهب.
⸻
بيت الشعر… بيت القلب
في قلب المتحف ينتصب بيت الشعر، ذلك البيت الأسود الذي يفتح أبوابه لكل غريب وقريب. جلستُ داخله على الوسائد المزركشة، وإذا بالصمت يتحول إلى لغة، لغة تسمع فيها أصوات الأجداد وهم يروون حكاياتهم عبر خيوط الصوف. أدركت أن بيت الشعر ليس مجرد مسكن، بل قصيدة مفتوحة على السماء، مدرسة للكرم، وذاكرة تصرّ على البقاء.
⸻
المقلوبة… طقس الذاكرة
ثم جاءت اللحظة التي مزجت التراث بالمذاق: المقلوبة. على مائدة الخيمة، تحوّل الطعام إلى حكاية. رائحة الباذنجان المقلّي والبهارات لم تكن مجرد نكهات، بل مفاتيح لذاكرة البيوت القديمة. ونحن نأكلها معاً، شعرت أن الطبق يقلب أرواحنا قبل أن يقلب نفسه، يعيدنا إلى دفء المشاركة، إلى زمن كانت المائدة فيه رمزاً للانتماء والمساواة.
⸻
أكثر من متحف… وطن مصغّر
حين غادرت المتحف، لم أغادره حقاً؛ فقد التصق بي كما يلتصق الرمل بالخطوات. فهمت أن المتحف ليس مكاناً نودّعه، بل وطناً نصطحبه معنا. رهط لم تقدّم لي جولة سياحية، بل منحتني لحظة تصالح مع ذاتي: أن أرى تراثي ممتداً بين الماضي والحاضر، أن ألمس كيف تُحفظ الهوية في خيمة، في أغنية، في فنجان قهوة، وفي صحن مقلوبة يُقدَّم بحب.
⸻
خاتمة فلسفية
المتاحف الحقيقية ليست جدراناً تحفظ معروضات باردة، بل أوعية للذاكرة الجمعية، تحرس ما لا يُرى بالعين: الإحساس بالانتماء، الاعتزاز بالجذور، والإيمان بأن الماضي ليس عبئاً بل رافعة للحاضر والمستقبل. وبيت أ-شاعر في رهط شاهد حيّ على أن الهوية لا تُدفن، بل تُبعث في كل بيت شعر، في كل وليمة، في كل قصة تُروى على لسان الأجداد.
ذلك هو المعنى الأعمق للزيارة: أن يصبح المتحف وطناً مصغّراً نحمله في القلب أينما ذهبنا