الرئيسية مقالات

حجر الزاوية: الخوف على مستقبل المشروع الصهيوني

ساهر غزاوي 
نُشر: 04/09/25 23:49,  تحديث: 23:50
حجر الزاوية: الخوف على مستقبل المشروع الصهيوني

قبل الشروع في الحديث، من المهم الإشارة إلى أن حجر الزاوية هو أول حجر يوضع في زاوية أساسات المبنى، ويُعد أهم حجر لأنه يحدد اتجاه البناء وثباته. ومن هنا جاء استخدامه مجازًا للدلالة على العنصر الأساسي أو الركيزة الأهم التي يقوم عليها نظام أو فكرة أو مشروع ما. 


تتصاعد في الداخل الإسرائيلي أصوات تحذر من مستقبل المشروع الصهيوني في ظل الحكومة الحالية، التي تُعد الأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل. وهذه الأصوات ليست هامشية، بل تنتمي إلى ما يُعرف بـ"النواة الصلبة" للنظام الحاكم سابقًا. ويُطلق على هؤلاء في بعض الأدبيات تعبير "أبناء المؤسسة" أو "حماة الدولة"، لما يمثلونه من رمزية سلطوية سابقة، وما راكمته مسيرتهم المهنية من شرعية ووزن جماهيري، إذ يضمون قادة سابقين في الأجهزة الأمنية والعسكرية، وقضاة ورؤساء حكومة سابقين. ويرى هؤلاء أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وحلفاءه في الحكومة يقودون البلاد إلى طريق مسدود يهدد وجود الدولة ذاتها.


وبطبيعة الحال، لا يمكن حصر جميع هذه الأصوات لكثرتها، لكن يمكن رصد بعض النماذج البارزة منها، مثل زعيم المعارضة يائير لابيد ورئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، اللذين حذرا من أن استمرار هيمنة نتنياهو وحلفائه سيؤدي إلى تفكك الدولة وانهيار الفكرة الصهيونية. فقد شدد لابيد على أن فوز الائتلاف الحاكم في أي انتخابات مقبلة سيعني "نهاية الصهيونية"، معتبرًا أن نافذة إنقاذ الدولة تضيق بسرعة. أما باراك، فاعتبر سياسات الحكومة الحالية ابتعادًا كاملًا عن أسس المشروع الصهيوني، داعيًا إلى وضع حد لنهج نتنياهو الذي وصف رؤيته بـ"السوداوية"، إذ يرى أن السياسات الحالية قد تدفع إسرائيل إلى أزمة وجودية غير مسبوقة، في ظل استمرار الحرب على غزة واستبعاد أي انتخابات مبكرة قبل موعدها المقرر عام 2026. كما يبرز موقف يوفال ديسكن وعامي أيلون، اللذين شغلا منصب رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، إذ لم يتوقفا عن توجيه انتقادات حادة للقيادة السياسية، محذرين من تفكك داخلي وانحراف سلطوي خطير. كذلك حذر المحلل السياسي في القناة 13 أودي سيغال من أن نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ينفذان مشاريع تمثل "الخطر الأكبر على المشروع الصهيوني ودولة إسرائيل".


عمليًا، تعكس هذه التحذيرات شعورًا متناميًا بأن التحولات السياسية الراهنة تجاوزت الخلافات الحزبية التقليدية لتتحول إلى أزمة وجودية تمس جوهر المشروع الصهيوني. فقد بدأت شخصيات أمنية وقضائية بارزة سابقة ترى في هذه التحولات تهديدًا مباشرًا للبنية "الديمقراطية" للنظام، ما دفعها إلى المجاهرة بمعارضتها انطلاقًا من شعور بمسؤولية تاريخية تجاه مستقبل الدولة. ومع ذلك، يظل تأثير هذه المعارضة محدودًا لأنها تتحرك من داخل الإجماع الصهيوني لا خارجه، وتشترك مع الائتلاف الحاكم في ثوابت استراتيجية كتعزيز الردع العسكري، وإدارة الصراع مع الفلسطينيين من منظور أمني صرف. وحتى أشد الأصوات انتقادًا تسعى إلى إصلاح داخلي للنظام لا إلى مساءلة بنيته الاستعمارية الإحلالية، بينما يدور الخلاف بين النخب الليبرالية-العلمانية الساعية للحفاظ على نموذج "إسرائيل" اليهودية-الديمقراطية وفق التصور الغربي، والنخب اليمينية-الدينية التي تدفع نحو نموذج ثيوقراطي أو "مملكة إسرائيل" توراتية. وفي فترات الأزمات والتهديدات الأمنية، تميل المعارضة إلى الانضواء تحت شعار "الوحدة الوطنية"، ما يجعلها صمام أمان للنظام بدل أن تكون قوة تغيير جذري.


ويبرز من مجمل هذه التحذيرات أن الخوف على مستقبل المشروع الصهيوني هو حجر الزاوية الذي يوحد أطراف الطيف السياسي. فهذا المشروع منذ نشأته أواخر القرن التاسع عشر بدعم القوى الاستعمارية الغربية، كان ولا يزال مشروعًا استعماريًا إحلاليًا هدفه إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، عبر استقدام المستوطنين ونزع ملكية السكان الأصليين وتهجيرهم. ويستند المشروع إلى سردية تزعم أن فلسطين كانت "أرضًا بلا شعب"، ويتبنى سياسة توسعية تستهدف أكبر مساحة ممكنة من الأرض، مستعينًا بأدوات سياسية وقانونية وعسكرية لتكريس السيطرة، إضافة إلى توظيف البعد الديني التوراتي لإضفاء شرعية تاريخية على الاستيطان. وقد تجلت هذه الأهداف في مرحلة التأسيس عام 1948، التي شهدت النكبة وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين، وتدمير قراهم، ثم في مرحلة التوسع بعد 1967 التي كرست الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس، إلى جانب بناء تحالفات دولية وتوظيف التفوق العسكري والتكنولوجي لترسيخ إسرائيل كقوة استعمارية مركزية في المنطقة.


في النهاية، ورغم الزخم الذي تحظى به هذه الأصوات، خصوصًا مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة (التي قد لا تُجرى أصلًا في ظل تعنت نتنياهو واستمرار الحرب على أكثر من جبهة)، فإنها لا تمثل بديلًا عن المشروع الصهيوني، بل تُعد جزءًا من استراتيجيته الداخلية لإدارة أزماته. قد تُطرب هذه التصريحات آذانًا عربية وفلسطينية، لكنها في جوهرها تدور في فلك النظام القائم، ولا تتجاوز محاولة ترميم بنيته الداخلية وإعادة توزيع الأدوار داخله. إن الخلاف مع حكومة نتنياهو بتركيبتها اليمينية المتطرفة ليس مساسًا بجوهر المشروع، بل سعيًا لإنقاذه من أزماته البنيوية وخطر التفكك، عبر ضبط التوازنات وتعديل السياسات، من دون المساس بالنظام الذي يقوم على الامتيازات العرقية والسيطرة على السكان الأصليين.
وهنا يبرز سؤال مهم، خاصة في ظل التحركات الماراثونية للأحزاب العربية التي بدأت ترتب أوراقها الانتخابية: أين هي هذه الأحزاب، التي تشارك في الكنيست، من حجر الزاوية؟ سؤال مشروع يستحق التفكير، وأنا أتساءل بدوري: أين هم؟