* هل اصبحت فلسطين في أمريكا أم اميركا في فلسطين؟
* هل قامت امبراطورية أمريكا على أنقاض امبراطورية فلسطين المشرذمة تحت وقع نعال فلسفة فرّق تسد
* فلسطين امبراطورية مايكروكوزميّة، ان لم تكن قارة كونية يعيش فيها كل انواع البشر على اختلاف الوانهم ودياناتهم
بالرغم من نفوري الشديد من النظام الأمريكي الجشع والمستعمِر والظالم والناصر والمشغّل والمشجّع للنظم التي تؤيّده في توجّهه هذا، ابتداء من نظام اسرائيل ومرورا بنظم الاستعمار الأوروبي القديم من أمثال انجلترا وفرنسا وايطاليا والمانيا
الخ، وتعريجا على نظم المخترة العربية التي اقنعتها الامبراطورية الامريكية بأنّ حياديتها او ولاءها هو الضمان الوحيد لبقائها، فاقتنَعَتْ تلك النظم انّ حدودها لا يمكن أن تتجاوز حدود ولاءاتها والا فإنها ستعرّض نفسها للخطر، فقد حسدت تلك الامبراطورية كثيرا، وقلت أن كراهيتي لها ربما ليست نابعة فقط من صفات نظامها المستعمر والداعم لسائر المستعمرين، بل ايضا بدافع الغيرة والحسد، فما كنّا فيه أصبح لهم ، وكأنما هو يُنتزع منا كي يمتلكوه لأنفسهم ولكن بقواهم الذاتية، مع فارق بسيط، وربما كبير، انهم استعمروا القارّة استعمارا بعد أن قضوا على سكانها الأصليين، بينما نحن كنّا نعيش في قارّتنا فلسطين الممتدة عبر عالمنا العربي المترامي الأطراف لدرجة أن ساكنيه أُطلِق عليهم اسم "الأمّة العربية"، وجاء المستعمرون فطردوا ثلثنا وقتلوا ثلثا آخر وأبقوا الثلث المتبقي يعيش فيها الى الآن
إلا أنّني عندما تابعت احتفالات تنصيب "باراك حسين اوباما" الأفريقي الأصل الأسود ذي الجينات المختلطة من أب مسلم أسود كينيّ وام مسيحية امريكية بيضاء، ومن ثم يتركه والده فترافقه امه الى اندونيسيا حيث تتزوج هي من اندونيسي مسلم فيتعلّم اوباما هناك مرة في مدرسة اسلامية ومرة اخرى في مدرسة مسيحية ليصبح اندونيسيا على امريكي على أفريقي، ليكتسب لاحقا وبقوة خليط جيناته ومكتسباته ثقافة انسانية كونية، فيتربع على كرسي عرش الإمبراطورية العظمى
الكاريكاتير للفنان المقدسي "خليل ابو عرفة"
أليس الخليط الجيني والمكتسب المتمثل في جسد هذا الفرد هو ذاته الخليط الذي يتكوّن منه جسد امبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية؟ أليس المواطن فيها هو المهمّ وليس دينه؟ انها خليط من سود وبيض ومسيحيين ومسلمين وهندوس وبوذيين وملحدين وبشر من كل الأجناس والأشكال الموجودة على وجه الكرة الأرضية
نعم إنّ فلسطين امبراطورية مايكروكوزميّة، ان لم تكن قارة كونية يعيش فيها كل انواع البشر على اختلاف الوانهم ودياناتهم، وهي مهد الكتب السماوية وصانعة الأنبياء، وتنوّع تضاريسها وطقسها يجعلها تبدو جنّة الله على الأرض
أليس من دواعي الحسد والغيرة أن تتحول من مكان فيه كل مواصفات الحياة الأممية والكونية والتآخي بين كل انواع البشر، الى بؤرة تجارب متّبعي فلسفة وسياسة فرّق تسد، فيحوّلها كل انواع الاستعمار والحكّام وأتباع المدّ الديني المتعصب الى دولة يهودية، وربما لاحقا الى دولة اسلامية، او ربما ينادي بعضهم بتحويلها الى دولة مسيحية، بدلا من اعادة كنْز خلطتها الجميلة الى جوهرها وأصلها؟ هل اصبحت فلسطين في أمريكا أم اميركا في فلسطين؟ هل قامت امبراطورية أمريكا على أنقاض امبراطورية فلسطين المشرذمة تحت وقع نعال فلسفة فرّق تسد، ونعال ساكنيها الجدد؟
الاستعراض الرائع الذي قامت به امريكا استقبالا لرئيسها الجديد بعد انتخاباتها الديمقراطية بناء على دستور لا يجرؤ رئيس او مواطن فيها أن يحيد عن مبادئه من جهة، ومن جهة أخرى التشرذم العربي الذي رافق ذلك الاستعراض في مؤتمر القمّة الاقتصادية المنشق والمتشرذم عن القمّة القَطَريّة المنشطر عنه الى مؤتمر القمة السعودية
الخ لا يعبّر الا عن الانحطاط المحبط الذي وصل اليه حالنا العربي، وبخاصة بعد كل هذا الدم الذي لا يتوقّف من جسد ابناء امبراطورية فلسطين التي تشرذمت مع تشرذم العرب، والذي وصل قمّة تدفّقه في غزّة في قمّة انعقاد القمم العربية الفاشلة والمؤجلة والمنعقدة على وهم وخراب وخلاف
ويقول البعض متبجّحا: ربما هكذا أفضل، فلماذا الانتخابات، ولماذا الديمقراطية، فكثير علينا نظام الشورى؟ لو أنّ مصاريف احتفالات الأمريكان بتنصيب رئيسهم الجديد خُصّصت لفقراء العالم ولجياع امريكا فهذا افضل من هذا البذخ الذي إن دلّ على شيء فهو يهدف الى رفع معنويات المواطن الأمريكي الذي لا يزال يصارع من أجل إبقاء امبراطوريته أقوى الامبراطوريات إن لم تكن هي الامبراطورية الوحيدة؟ نعم ها هم زعماؤنا الأشاوس العباقرة يوفّرون مصاريف الديمقراطية ورفاهية وبذخ الانتخابات وترسيخ دول المؤسسات، وهذا ما جعل شعوبنا العربية تعيش برخاء ونعيم فتنعم الآن بأبهى صورة لنموذج أمّتنا العربية الخالدة ذات الرسالة الواحدة
الم تلاحظوا غزّة وهي مزيّنة بأزهار شقائق النعمان الحمراء لشدّة ما نزل عليها من بذخ واحتضان من أشقائها العرب، فكذبا يدّعي المدّعون أنّ هذا اللون الأحمر هو دم مسفوك يسيل في أنهارها بديلا عن مياهها المقطوعة عن عطشاها وجياعها والمبادين فيها؟
بوركتم يا زعماءنا الأشاوس على هذه القمم الشمّاء، وعلى هذا التخطيط المحكم الذي يشكّل بديلا للديمقراطية الغربية المزيّفة التي تُحَوّل خيرات الشعوب ومكتسباتها الى مصاريف لا داعي لها من أجل انتخاب رئيس او برلمان او حكومة تدير البلاد بقوة الدستور
لا بل انّ هؤلاء الكفرة والمشركين والملحدين المستعمرين الامبرياليين يصرفون جلّ وقتهم على المختبرات والاختراعات واكتشاف الفضاء، وهذا كفرٌ لأنّ صرف الوقت على هذه الأمور هو على حساب الصلاة والدعوة الى الله العلي العظيم كي يقبلنا في الحياة الخالدة بدلا من هذه الحياة الدنيا والدونية والدنيوية الزائلة
لماذا كل هذه المعمعة البذخيّة بينما نستطيع نحن بدهائنا وفراستنا العربية أن نسلّم كل هذه البنود الى شخص واحد هو الآمر الناهي وهو صاحب القرار وهو الحاكم بأمره الى حين ينْزله الخالق الأعلى عن عرشه فيدعوه الى يوم الحساب، عِلْماً أنّ ذلك المدعو الى الموت صاغرا كان قد حسبها جيدا قبل فوات الأوان فعيّن خليفة له من أبنائه او من مقرّبيه كي لا يفسح المجال لأي انقلابي او انسان مشكوك في نواياه الديمقراطية الانتخابية اللبرالية التحررية الامبريالية والاستعمارية، فيستلم الحكم مكانه بدون أي وجع رأس وبأقلّ ما يمكن من مجهود؟ ولماذا النقاش المتعب وتحريك العقول وصراع الأدمغة وصراع الرأي والرأي الآخر صارفين طاقتنا عبثا في حين نستطيع أن نتقمّم بالجملة وننهي كل خلافاتنا بدون تحضير و"خَبْط لزق" بتبويس اللحى وتوزيع الابتسامات البلاستيكية على بعضنا البعض فتنتهي المشاكل بضربة حظّ ولمسة ساحر بدون اية حاجة لأية خطّة مغامرة قد تجعلنا نتضارب بالآراء والأحذية فنتبهدل امام شعوبنا وأمام العالم فوق ما نحن مبهدلين كما تبهدل بوش رحمة الله عليه في آخر أيام حياته بسبب ضربة حذاء شاب متهوّر من العراق لا يفقه شيئا في السياسة ومصلحة الأوطان وفلسفة الولاء للحكام اسمه منتظر الزّيدي؟
ولكن كيف جاء حكّامنا العرب الى كرسي الحكم؟ واذا استولوا على الكرسي الى ابد الآبدين ودهر الداهرين آمين، فهل هذا بحُكم بطشهم وقمعهم لشعوبهم وبدافع حكمتهم ودهائهم ام ربما لأنّ الشعوب أصبحت عاجزة عن اختيار مَن تريده من الحكّام بناء على إرادتها هي وليس بناء على ارادة الحكام؟ اذا كانت شعوبنا تنتخب برلماناتها كي تنتخب برلماناتها رؤساءها وملوكها، ويرضون لهم حكم التوريث الذي يخوّل للحاكم تنصيب نفسه بديلا عن المؤسسات، فهل "هيك مزبطة بدها هيك ختم"؟ هل الشعوب بريئة مما هي فيه؟ هل الشعوب حقا مغلوب على امرها؟ واذا كان الأمر كذلك فإلى متى؟ لقد طالت اللعبة وطال الانتظار
هل اصبحت امريكا امبراطورية تتّحد فيها خمسون ولاية تشكل الولايات المتحدة الأمريكية يحكمها نظام واحد بينما نحن أشباه جزر يحكمها ولاة وزعماء طوائف ندّعي زورا وبهتانا اننا أمّة، بينما نحن نعيش في أشباه جزر تبدأ بنماذج شبه الجزيرة العربية امتدادا الى الامارات والممالك والسلطنات والجمهوريات الشمولية، وواحات سايكسبيكويّة قبلية دينية طائفية مشرذمة صاغت شكلنا "العصري" الحالي المتخلّف على هيئة نظم حكم وراثية خلافية ملكية كتبت شيكا مفتوحا يخوّلها بامتلاك كل الوطن بما فيه من مواطنين ومن خيرات ومؤسسات ومساحات لصالح المتربعين على عرشها؟ هل نستطيع أن نعمّم تجربة الامبراطورية الأمريكية على أمّتنا فنؤمّمها على طريق الخير وليس بانتهاج سبيل الابادة والشرّ؟ متى تصبح امبراطورية فلسطين هي امبراطورية الأمة العربية الأممية الخالدة؟
حلمت كثيرا فمتى يتحقّق الحلم؟