أطلعني صديق صاحب مكتبة عامة لبيع الكتب في مدينتي الناصرة، فور زيارة لمكتبته، قبل أيام، على عدد من الكتب التي تكرم احد الناشرين المحليين، ممن أطلقت عليهم في مقالة سابقة، اسم الناشرين الجدد، على إيقاع المؤرخين الجدد، لعدد من الكتاب العرب من القطر العربي السعودي
تمعنت فما أطلعني عليه الصديق صاحب المكتبة، فتبين لي انه كله ينحو نحو رواية" بنات الرياض" للكاتبة السعودية الشابة رجاء عبد الله الصانع، كان هذا واضحا من عناوين تلك الكتب، وهو:"شباب الرياض" تأليف خالد وليد حمود، " حب في السعودية" تأليف إبراهيم البادي، و"ملامح" تأليف زينب حفني، وفهمت من صديقي، انه توجد هناك رواية أخرى، في طريقها إلى المكتبات المحلية، تنضوي تحت لواء" بنات الرياض" عنوانها" كم بدت السماء قريبة" لمؤلف أو مؤلفة آخر أو أخرى، لا يهم، من السعودية
لا اخفي أن مشاعر متضاربة انتابتني، حين اطلاعي على هذه المجموعة من الروايات السعودية، فرحت أتساءل عما إذا نزل الوحي على كتاب السعودية وكاتباتها، مرة واحدة وخبط لزق، بعد صدور رواية بنات الرياض تحديدا
يبدو أن صاحب المكتبة، وهو مثقف أريب، لاحظ ما انتابني من مشاعر، فسارع للإجابة عما توقع أنني أريد أن اعثر له على إجابة من أسئلة فرضتها اللحظة، فاض صديقي بكلام كثير أوجزه، في أن بنات الرياض، شكلت بعد صدورها ظاهرة اخذ الكتاب في السعودية يفكرون فيها بجدية، هي ظاهرة الكتابة الجسدية، نسبة إلى الجسد، بل إن بعضهم رأى على ما يبدو انه لا يقل أهمية عن كاتبة شابة، ما زالت في الثالثة والعشرين من عمرها هي مؤلفة بنات الرياض، فسارع إلى أوراقه وأقلامه، وربما إلى جهاز الحاسوب الخاص به، واخذ يكتب كما كتبت الصانع، آملا في أن يحظى بمثل ما حظيت به من اهتمام، فأعيدت طباعة روايتها في بلدان عربية، وفي بلادنا أيضا، ليطلع عليها القراء حيثما طبعت، ولتصبح مؤلفتها الشابة، نجمة يشار إليها بأطراف الأصابع، بين ليلة وضحى
بعيدا وقريبا، في الآن ذاته، عما قاله صديقي، اعتقد أن موجة "كتابة الجسد" في عالمنا العربي خاصة، سواء كانت من قبل المرأة، أو من قبل الرجل، باتت موديلا وبطاقة للدخول إلى عالم الأدب والإبداع الأدبيين، فأنت إذا ما أردت أن تلفت الانتباه من المحيطين بك، فما عليك في فترتنا التعيسة الحالية، إلا أن تكتب رواية تفوح منها رائحة الجسد الإنساني، ولا يهم بعد ذلك أن تضيع الروح وان تُبهدل في ثنايا ما تكتبه، كما هو حاصل إلى حد بعيد
أما إذا عدنا لموضوع الكتابة الحالية ذاته، وهو موضوع نزول الوحي المفاجئ على كتاب السعودية وكاتباتها، فإننا سنرى أنفسنا، أمام ظاهرة لافتة، وتستوجب النقاش والحديث وتسجيل الملاحظات عليها
أؤكد بداية أنني لست ضد أن يكون هناك موديل في الأدب، فكل الآداب في العالم، تشهد بين الفينة والفينة مثل هذا الموديل، ففي فترة الكاتب الأمريكي البارز ارنست همنجواي، في القرن الماضي، ظهر موديله الذي يسعي إلى المجهول، ويكتب رواية عنه، وفي فترة الكاتب العربي المصري الروائي نجيب، في القرن المذكور آنفا، ظهر من سعى للكتابة عن الطبقة الوسطى، وما إلى تلك من مواضيع، وهلم جرا
إلا أن هذا الموديل يشترط أن نكون قدام كاتب بارز وله ما له في دنيا العطاء الإبداعي، مثل همنجواي أو محفوظ، أما أن نكون أمام كاتبة ناشئة، في بدايات إبداعها وعطائها الأدبيين، فان الأمر يستوجب التوقف عند عدد من الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة
لعل أول هذه الأسئلة هو: ما الذي يدفع عددا من الكاتبات والكتاب في قطر واحد، هو السعودية، للسير في طريق كاتبة شابة ما زالت تتلمس بداية الطريق، واعتقد أنها لم تصدق هي ذاتها، بعد ما أثارته روايتها من أصداء، وربما ما تزال تثيره حتى هذه الأيام رغم مضي فترة غير قصيرة على صدورها؟
إنني لا أجد إجابة أكثر شفاء للنفس وإراحة لها سوى أن ما يدفع هؤلاء هو حب الظهور، والتلهف للانتشار السريع، دون بذل ما يتطلبه الإبداع الأدبي، خاصة في مجال الرواية، من جهد، فإذا ما كانت صاحبة بنات الرياض حققت ما أرادت تحقيقه بهذه السرعة القياسية، بكتابتها لرواية لا تخلو من جسدانية، فلماذا لا تكتب تلك ولماذا لا يكتب ذاك، منطلقا في طريقها وشاطحا فيه؟ ثم انه إذا كان بإمكاني أن اكتب جسدي، وانتشر بسرعة ويقراني الناس في مختلف أنحاء العالم العربي، وهو طموح يرنو إليه كتاب حقيقيون ايضا، فلماذا لا اكتب هذا الجسد؟
هنا اعلق، أنا كاتب هذه السطور، وليس من أحاول أن استنطقهم من كتاب السعودية وسواهم من مشابهين لهم، فأقول، إنني لست ضد أن يكتب الكاتب، سواء كان امرأة أو رجلا، جسده، وإنما أنا ضد ابتذال الجسد في الكتابة عنه، ضد تجاهل الروح، وضد عدم توظيف الجسد في العمل الإبداعي، بحيث يكتفي بعكسه لذاته فيه، متجاهلا أن المرمي البعيد لأي إبداع هو الاغتناء الروحي
هل يقول سير الكتاب المذكورين، من السعودية، وسواهم ممن يحذون حذوهم من العالم العربي المحيط، أن الكتابة في عالمنا العربي، باتت وسيلة سريعة للظهور، مثلها في هذا مثل الغناء متدني المستوى مثلا؟ وهل يشير ما يفعله هؤلاء، إلى أن ما بات يهمهم هو أن يكونوا، وان يقراهم الناس، وليكن بعد ذلك ما يكون؟ ثم هل انتهى عصر الكاتب المبدع، الذي يحلم بإضافة جديد، إلى ما سبق وقدمه آخرون مشهود لهم في عالم العطاء الأدبي والإبداعي بصورة عامة؟ هل بات الكاتب يحارب عن وجوده الشخصي، ولا يهمه، كيف يكون هذا الوجود؟
ما حصل في هذه الظاهرة، التي أحب أن اسميها ظاهرة بنات الرياض، يذكرني بظاهرة لا تقل خطورة عنها، عشناها سابقا، في بلادنا وفي العالم العربي، المحيط بنا أيضا، في مجال الإبداع الأدبي، هي ظاهرة ما أطلق عليه الشعر الوطني، وكان أحرى بنا أن نسميه الشعر السياسي، هذه الظاهرة التي تصدرها شعراؤنا الفلسطينيين الميامين، أولئك الذين أطلق عليهم شعراء المقاومة، تركت آثارا سيئة، حتى أن الناقد الفلسطيني الراحل حسين جميل البرغوثي، وصفها في كتاب أصدره في الثمانيات من القرن الماضي، عنوانه" أزمة شعرنا المحلي" بأنها ظاهرة سلبية، ووجه البرغوثي فيما أتذكر سهام انتقاداته المخلصة قائلا، ما مفاده إننا لا يمكن أن نطلق على كل ما كتب من كلام حول البرتقال وما إليه من الحمضيات، صفة شعر، وان الوقت حان لان نتعامل مع الشعر هذا الفن الجميل، بما هو جدير به من رقي لا يتنازل عما يتطلبه من جماليات
الأدب أيها السادة، من السعودية وسواها، يتطلب دائما حيزا أوسع ليتحرك فيه، انه حيز الإنسان الرائع الجميل، وهو ليس حيز الجسد، مع جمال هذا الحيز، إذا ما وظف توظيفا حقيقيا فيما ننتجه من أدب روائي، كما انه ليس حيز البرتقال، مع جماليه هذا إذا ما وظف في قصيدة أو قصة