* قرية سُحماتا تقع على الطّريق الموصِل بين مدينة صفد ومستوطنة نهاريا السّاحليّة حيث كانت تابعة لقضاء صفد في فترة الحكم العثماني، وبعدها، في فترة الحكم البريطاني تَبِعت قضاء مدينة عكّا
تقعُ قرية سُحماتا على الطّريق الموصِل بين مدينة صفد ومستوطنة نهاريا السّاحليّة حيث كانت تابعة لقضاء صفد في فترة الحكم العثماني، وبعدها، في فترة الحكم البريطاني تَبِعت قضاء مدينة عكّا. وتقع القرية شمال شرق مدينة عكّا، وتبعد عنها حوالي خمسة وعشرين كم وتحيطها أخواتها، القرى المجاوِرة، سبلان وبيت جنّ وفسّوطة وترشيحا وكفر سميع وحُرفيش.
كانت قرية سُحماتا تعدّ حوالي ألفٍ ومائتين نسمة، من مسلمين ومسيحيّين، عاشوا بسلام وتآخٍ وانسجام وتجانس، حيث كان حمّام العريس المسيحي عند جاره المسلم والعكس صحيح ويخصُّ الفرح أو التّرح أهل كلّ القرية، حيث أنّ فرحهم واحد وترحهم واحد وهمّهم واحد.
سقطت القرية في الثّلاثين من شهر تشرين الأوّل من العام ألفٍ وتسعِمائةٍ وثمانيةٍ وأربعين، بعد أن دخلها لواءان، جولاني وعوديد، كانا قد التقيا عند مدخل القرية، بعد قصفٍ جويٍّ شديدٍ وعنيفٍ وواسع النّطاق من الطّائرات الصّهيونيّة المُغيرة، بعد خروج جيش الإنقاذ منها، وقُتل خمسة عشر مواطِنًا، ما بين امرأة وطفل وكهل، كانوا يحلمون بغدٍ أفضل، كانوا يحلمون بمستقبل أجمل..
لقد تساقطت القنابل مثل "زخّ المطر" على رؤوس المواطنين العُزّل والأبرياء، لإخافتهما وإرهابهم، ليهربوا. "وبقِيَ لعرب أرض إسرائيل وظيفة واحدة - الهرب"(تصريح دافيد بن غوريون، 21/10/1948).
تذكر الباحثة، الإسرائيليّة، الجريئة نوغا كدمان، في أطروحتها للّقب الثّاني فيموضوع علوم السّلام والتّطوّر في جامعة غوتبورغ السّويديّة "في جوانب الطّريق وفي هوامش الوعي" كيف تُحاول المؤسّسة الصّهيونيّة والمستوطنون اليهود الذين استوطنوا فلسطين أو حتّى سكنوا بيوت الفلسطينيّين بعد طردهم ونزوحهم منها، مَحْوَها من ذاكرة ووعي الفلسطيني.
لقد تجاوز عددُ هذه القُرى العربيّة التي "أفرَغوها من سُكّانها" (حسب تعبيرها) وفي مكان آخر تكتب احتُلَّت، العددَ أربعمائة.. قد نهج الاحتلال على هدم البيوت ومسحها مع الأرض، ليمنع عودة اللاجئين إلى ديارهم، حيث قام بعدها بزرع وريِّ الأشجار العاليّة والكثيفة حتّى لا تظهر بقايا البيوت المهدَّمة للعيان "وتُشوِّه المنظر" (حسب تعبيرهم)، كذلك كانت تمنح مُقاولي البناء الحقّ في الدّخول إلى تلك القُرى لجمع أحجار البيوت المهدومة وبناء بيوتٍ أخرى، للمستوطنين، في نفس المكان أو على مقربة منه أو في مكان آخر، بعد أن تُعطي المكان اسمًا آخر لا يمتّ بصلة لاسمه العربيّ أو تمنحه اسمًا قريبًا منه، أو تمنحه اسمًا توراتيًّا، كان الهدف تهويد البلاد والذّاكرة والانتماء ومحو هويّة الوطن العربيّة وعروبة الذّاكرة والشّعور، ومحو أي أثر لهذه البيوت، محو كلّ شيء عربيّ.
فقد أقيمت مستوطنتان على أرض سُحماتا، مستوطنة حُوسِن في جنوب غرب القرية ومستوطنة تسوريئيل في شرقها، حيث اقتطعوا من الأرض مساحات واسعة لتربية المواشي والدّواجن، ويُعقِّب رفيقنا أبو خليل قائلاً: "يظهر أنّه لا يحقّ لنا العيش في أرضنا، حسب قاموسهم، وأنّه يحقُّ لحيواناتهم الأليفة العيش في أرضنا أكثر منّا"..
عملت المؤسّسة الصّهيونيّة على "منع الفلسطينيّين من العودة أو العمل في أرضهم عن طريق حرقها أو قتلهم بإطلاق الرّصاص عليهم إن عادوا، وتأجير الأراضي العربيّة لمستوطنات يهوديّة، وإقامة مستوطنات يهوديّة جديدة على أراضي اللاجئين وإسكان اليهود في بيوتهم، ومصادرة قانونيّة للأراضي حسب قوانين الطّوارئ البريطانيّة، والإعلان عن هذه المناطق، مناطق عسكريّة مُغلقة بإحكام للضّرورات الأمنيّة وتوكيل الملكيّة التّامّة للكيرن كييمت وجهات حكوميّة رفيعة المستوى..".
سحماتا المهجرة اليوم
ويقول بطرس خليل أسعد سمعان، "ولِدْتُ في قرية سُحماتا في العاشر من شهر أيلول من العام ألفٍ وتسعِمائةٍ وأربعةٍ وثلاثين، وتملك عائلتي نحو مائة وثمانين دونمَ أرضٍ أو يزيد، أنهيتُ الصّفّ الرّابع الابتدائي في القرية وانتقلتُ بعدها إلى قرية فسّوطة لتكملة دراستي، أذكر شيئًا، ربّما من ذاكرتي أو ذاكرة من حدّثني في طفولتي، عن ثُوّار الستّة وثلاثين في بلدنا أنّهم حين دحروا الانجليز، بعد أن قتلوا بعضًا من جنوده وأسروا قائدهم حين حاولوا احتلال قريتي، لكنّهم عادوا للانتقام، إذ بعد أن أحكموا الطّوق حول عنق سُحماتا، دخلوها وأفسدوا المؤن وحطّموا أثاث المنازل وأهانوا سُكّانها وأزهقوا أرواحنا وحطّموا خوابي الزّيت والسّمن ورشّوا القمح والطّحين في الشوارع حتّى كِدْتَ تحسب أنّ الأرض بيضاء وخوفًا على أنفسنا هربنا من القرية لكِنَّنا عُدنا إليها بعد أيّام معدودة".
كان عندها عمر بطرس سمعان أربعة عشر عامًا حين سقطت قريته، في عام النّكبة، بأيدي لوائي غولاني وعوديد، وهُجِّرَ أهلها وبقي في كنيسة القرية المتقدِّمون في السّن وحضرت والدته إلى المدرسة في فسّوطة لأخذه والهرب إلى لبنان، بعد أن أقلّتهم الشّاحنات إلى قرية كفر برعم، كذلك هرب أخوه أسعد إلى لبنان، لكنّهم عادوا إلى الوطن بعد بضعة أيّام مع الرّفيق شفيق متري، بعد أن سمعوا حال عبورهما الحدود نداء شخصٍ من فسّوطة، لا يذكرُ اسمه، "سايق عليكو الله إنكو ترجعوا ولا تتركوا بلادكو" وبعد ذلك عاد أخوه أسعد، ولم تكن هناك حاجة لاستعمال قوانين لَمِّ الشّمل حيث أن عودتهم تزامنت مع عمليّة إحصاء السّكّان ولم يعلم أحد بنزوحهم، وسكنوا قرية البقيعة. أمّا الذين احتموا في كنيسة الكاثوليك، طُرِدوا منها لاحقًا في ليلة عيد الميلاد من عام النّكبة إلى الحدود اللبنانيّة قرب قرية كفر برعم، ومن لم تُسعِفه رجلاه في الهرب والاختباء وجد أهلُهُ أنّ رصاصة الغدر استقرّت في رأسه.
سحماتا المهجرة
"بدأتُ العمل أجيرًا في قطف زيتون أرضنا وزيتون قريتنا، عند مقاوِلٍ أصدر تصريحًا لنا للعمل في كرومنا، حيث استغرق عملنا إثنتي عشرة ساعة يوميًّا مقابل خمسة قروش.. بعدها اشتغلْتُ في البناء حيث كان عليَّ حفر أساسات في الأرض لإقامة المنشآت عليها، ويجب أن يكون عُمق الحفرة مترين ونصف المتر، ومن لم يحفر حفرة ونصف في اليوم، كان يُحرَم من أجر ذلك النّهار، مع أنّ المعاش المدفوع كان أقلّ بكثير من تسعيرة الهستدروت لعمّال البناء، فضلاً عن أنّ الشّركة التي كنتُ أعمل فيها هي شركة "سوليل بونيه"، أكبر شركة بناء في الدّولة، وقمتُ مع رفاق لي في ورشة العمل بتحريض العمّال على الإضراب وأنّ علينا العمل يدًا واحدة لإنجاحه، الأمر الذي لاقى تجاوبًا واستحسانَ العمّال، لكنّ العمّال بعد أن حضر مسؤول الشّركة إلى ورشة العمل حال سماعه الخبر، خنعوا ورفضوا الالتزام بقرار الإضراب فقمتُ مستنكِرًا تصرّفهم وتصرّف المسؤول المُكْرِه الذي حضر لإرهابهم ناجحًا، فتركتُ العمل ولم يُدفع لي معاش الأيّام التي اشتغلتُهَا، لكنّهم بعد ذلك بعام واحد، حين شعروا على جلدهم الظّلم أكثر، نظّموا إضرابًا حصلوا فيه على جميع مطالبهم، تقريبًا،لم أغضب من تصرفهم، لكنّي شعرتُ بنشوة عمّاليّة منصورة من ثمار تحريضي على صاحب العمل وظروفه والمطالبة بحقوق أفضل للعمّال.."