"أبي، أبي..." جاءني صوت ابنتي سوار من الجانب الآخر للخط الهاتفي، وكأنه ما جاء ينقذني.
سافرت سوار مع والدتها وإخوتها إلى بلدة دار جدها. وبقيت في البيت وحدي. كنت مضطرًا لإنجاز مشاريع متراكمة عليّ من العمل.
منذ ولدت سوار وكل الناس يقولون لي : "فش أحنّ من البنت"، "أحنّ من الأولاد"، وإن كنت بيني وبين نفسي أومن بأن "الحنية" ليست مقصورة على هذا الجنس أو ذاك الجنس من البشر فقد استلطفت هذه المقولة.. وبدأت ابنتي سوار تثبتها لي كل يوم من جديد..
حتى زوجتي تقول لي: "علاقتك مع سوار غير شكل"...
عندما أعود من العمل ومعي أكياس محملة بالأغراض من بقالة جارنا، تسرع إليّ سوار وأخواها... الولدان يقفزان على الأغراض ليعرفا ماذا أحضرت معي بعد هذه الغيبة الطويلة لثماني ساعات في العمل، وعندما لا يجدان شيئا لهما، وهذا يحدث في كثير من الأحيان، يتركاني أحمل كل الأكياس على عتبة البيت بدون أن يساعداني، أما سوار "الله يرضى عليها" فلا تهمها الأكياس الخاصة بها، ولا الأغراض التي اشتريها لها، بل كل ما يهمها هو أن تقفز إلي لتقول لي "بابا يعطيك العافية، كيف كان نهارك..."، وكان أصعب يوم في حياتي ينجلي عندما اسمع منها هذه الكلمات الحنونة... إنها حنونة فعلا والنظرية صارت شبه واضحة: البنت حنونة أكثر من الولد...
الكاتب نادر ابو تامر
عندما سمعت صوتها قلت بيني وبين نفسي: "فعلا هذه هي التربية الصحيحة، يا هيك يا بلاش"، وكأنني أؤكد لنفسي من جديد، فعلا: البنت حنونة أكثر من الولد... إنها حنونة فعلا، لأنها لا تترك القط الذي تربيه بدون طعام أو شراب، وإذا لم أحضر أنا له "الوجبة" المفضلة على قلبه، أو معدته، فإنها على استعداد للتخلي عن طعامها من أجله، وهذا ما فعلته في أكثر من مرة... إنها حنونة على القط، وعليّ وعلى والدتها، وإن صرت أشك مؤخرًا أن القط له منزلة خاصة لديها..
أنا الذي يتواجد في بيته، لوحده، بعد يوم عمل شاق، ولست قادرًا على الذهاب لزيارة أحد الأصدقاء من شدة التعب ها هي ابنتي الصغيرة والحبيبة تتصل بي لكي تسأل عني، حتى عندما تتواجد خارج البيت، أما أخوها فاتصلت إلى بيت جده وطلبت التحدث إليه لأطمئن عليه، فردّ على المكالمة وكأنه يخاف على جيبي من شركة الهواتف الخلوية، أنهى الحديث بيننا بسرعة البرق "بابا، راحت عليّ لعبة البليستيشن"، وكأنه أتي ليتحدث معي من منطلق "إسقاط واجب مش أكثر"..
"نعم يا بابا"، أجبتها من الطرف الثاني للهاتف وكأنني أريد أن أقول لها هيا ابدئي في الاستفسار عن صحتي، فأنت فعلا بنت حنونة أما أخوك فلا يهمه سوى أصحابه الذين ينتظرونه في الملعب، يركض ساعتين وراء الكرة.. ثم يتصل بي "تعال بابا خذني من الملعب"... فأطلب منه أن يعود سيرًا على الأقدام، حيث إن المسافة بين بيتي والملعب هي فقط عدة عشرات من الأمتار، لكنه يتظاهر بأنه لا يستطيع " المسافة بعيدة"...
وعندما لم يأتِ سؤال ابنتي سوار عن صحتي، وماذا فعلت لوحدي في البيت، وهل شاهدت "ميرنا وخليل"، أم أنني بقيت في البيت، وهل تابعت انتحار النجم دودو توباز، أو آخر إصابة بإنفلونزا الخنازير في بلدنا، بادرت أنا إلى توجيه السؤال إليها: "شو عاملين عند دار سيدو؟"
فأجابتني بسرعة قاطعة، وكأنها تريد أن تقول لي: "هذا السؤال لا داعي له"، أو "كبرنا على هذه الأسئلة، التي لا تتوقف عن توجيهها إلينا"..
وقالت بنبرة حازمة: "هل أطعمت سامو؟"
مين سامو؟ سألتها وأنا أعرف من هو سامو.. لكنني أريد أن أقول لها: "تسألين عن سامو، وعني لا تسألين، يا خسارة التربية"..
فأجابت بعصبية ملحوظة: "القط سامو... هل أكل أم أنه لم يأكل حتى الآن؟"
فطمأنتها: "نعم، أطعمته يا حبيبتي. أحضرت له خصيصًا نصف كيلو من النقانق الفاخرة من عند اللحام".
فودعتني بعدما اطمأنت على صحة قطها: "طيب، باي بابا منشوفك بكرا أو بعد بكرا، يلا باي"
... وسرحْتُ في حنان البنت تجاه أبيها.. حتى جاءني الطنين من الخط الهاتفي، والذي يعني أنه لا يوجد أحد في الجانب الآخر من الخط الهاتفي...